أنقرة وواشنطن..تصعيد على أرضية متأزمة

 

– أنقرة ترى أن ملف القس «برونسون» ليس السبب الرئيس للإجراءات الأمريكية

– تركيا وأمريكا تربطهما شراكة اقتصادية منذ عام 1995م كما أنهما عضوان في «الناتو»

– سبب العقبات في العلاقات الثنائية يعود إلى النظام العالمي الذي تغير بعد انتهاء الحرب الباردة

– الدين الخارجي التركي بلغ 453 مليار دولار منها 136 ملياراً ديون حكومية والباقي ديون للقطاع الخاص

– الحكومة التركية وضعت الهزة الاقتصادية في سياق الضغوط الخارجية على البلاد

 

«القس أندرو برونسون، رجل دين أمريكي مقيم في تركيا منذ سنوات».. أصبح عنواناً لأكبر أزمة في العلاقات التركية – الأمريكية منذ عقود، بل ربما الأكبر على الإطلاق؛ فالرجل الذي أوقفته تركيا عام 2016م بتهمة التواصل والتعاون مع الكيان الموازي المتهم بالوقوف خلف المحاولة الانقلابية الفاشلة أصبح مطلباً أمريكياً ملحاً وعنوان الأزمة الأخيرة.

كانت التهديدات الأمريكية واضحة؛ فإما الإطلاق الفوري لسراح القس «برونسون» أو عقوبات كبيرة على تركيا، وهو التهديد الذي نفذته واشنطن أولاً بعقوبات طالت وزيري الداخلية والعدل التركيين بدعوى أنهما مرتبطان مباشرة بملف توقيفه، ولاحقاً بعقوبات اقتصادية بدأت برفع رسوم الصلب والألومنيوم.

ترى أنقرة أن ملف «برونسون» ليس السبب الرئيس والمباشر للإجراءات الأمريكية؛ حيث إنه معتقل منذ عام 2016م وليس حديثاً، وحيث إن المحكمة قد أخرجته من السجن إلى الإقامة الجبرية في المنزل قبل يومين فقط من التهديدات الأمريكية، وحيث إن لغة التهديد والوعيد الأمريكية لم تكن ستؤدي لتعاون أنقرة في ملفه بل إلى تشددها ورفض التهديدات والإذعان، وحيث إن التصريحات الأمريكية اللاحقة قالت صراحة: إن العقوبات الاقتصادية لن ترفع بإطلاق سراحه.

سياق الأزمة

تربط بين تركيا والولايات المتحدة علاقة شراكة اقتصادية منذ عام 1995م، كما أنهما عضوان في حلف شمال الأطلسي (الناتو) بل هما القوتان العسكريتان الكبريان فيه، ورغم ذلك فالعلاقات الثنائية بينهما اتخذت منحى سلبياً مطرداً في السنوات الأخيرة؛ ذلك أن أنقرة ترى في سلوك واشنطن وسياساتها تجاهلاً لها بل وتهديداً لأمنها القومي، من خلال رفض التعاون معها في تسليم «فتح الله كولن» المقيم على أراضيها والمتهم بالوقوف خلف المحاولة الانقلابية الفاشلة من جهة، واستمرار دعمها الكبير والنوعي لحزب الاتحاد الديمقراطي وتمظهراته العسكرية في سورية، وهو الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني المصنف على قوائم الإرهاب التركية (والأمريكية بالمناسبة) بسبب حربه الانفصالية التي يخوضها ضد الدولة التركية منذ عام 1984م التي تسببت في مقتل أكثر من 30 ألف مواطن تركي.

في المقابل، تراقب واشنطن بقلق التقارب الحاصل بين أنقرة وموسكو الذي لم يكتف بتفاهمات معينة في الملف السوري، بل اتخذ مؤخراً أبعاداً إستراتيجية؛ اقتصادياً عبر مشاريع ضخمة في مجال الطاقة مثل مشروع محطة «أك كويو» للطاقة النووية، ومشروع السيل التركي للغاز الطبيعي، وعسكرياً عبر صفقة منظومة «إس400» الدفاعية التي تعتبر سلاحاً إستراتيجياً مضاداً لمنظومة «الناتو».

وفي الأصل، فإن أصل هذه العقبات في العلاقات الثنائية وغيرها وسببها يعود إلى النظام العالمي الذي تغير بعد انتهاء الحرب الباردة ولكن لم يستقر بعد على توازن جديد؛ حيث إن تركيا تغيرت كثيراً عنها خلال الحرب البادرة وما بعدها، وتغير خلال السنوات الـ15 الأخيرة تحديداً دورها ومكانتها ونظرتها لنفسها، غير أن الولايات المتحدة الأمريكية مازالت تريد التعامل بنفس ذهنية الحرب الباردة؛ بمعنى أن النزوع إلى الاستقلالية -ولو بالنسبية المتدرجة- عن الولايات المتحدة في السياسة الخارجية التركية هو أصل الخلاف بين البلدين، وكل ما دونه فهو إما تفرع عنه أو تغطية عليه.

البعد الاقتصادي

كانت التهديدات ثم العقوبات الأمريكية شارة البدء لتراجع ملحوظ وسريع لليرة التركية أمام العملات الأجنبية، بحيث خسرت في يوم واحد حوالي 20% من قيمتها، وهو أمر أكد العامل التكاملي للضغط الخارجي (الأمريكي) والمشكلات البنوية للاقتصاد التركي؛ ذلك أن مشكلات الاقتصاد التركي المتعلقة بعجز الحساب الخارجي وجدولة الديون والتضخم وغيرها من المؤشرات لا تكفي لتفسير وتيرة تراجع الليرة التركية؛ إذ هي أسباب قائمة منذ سنوات وما كانت لتتسبب في هذا التراجع المتسارع من جهة، كما أن مؤشرات الاقتصاد التركي في عمومها إيجابية ومستقرة إلى حد كبير من جهة أخرى.

الأرقام المتعلقة بالديون قد تسلط بعض الضوء على أبعاد المشكلة الداخلية والخارجية، باعتبار أن المشكلة الرئيسة -وفق ما قرره اقتصاديون- كانت في الاقتراض بالعملات الأجنبية وضغط مواعيد السداد.

في أبريل الماضي، أعلنت الخزانة التركية عن أن الدين الخارجي بلغ 453 مليار دولار، منها 136 مليار دولار (حوالي 30%) ديون حكومية، والباقي ديون للقطاع الخاص (70%)، في حين بلغت الديون قصيرة الأجل حوالي 26% فقط؛ وبالتالي، فإن الحديث عن انهيار الاقتصاد التركي كانت «بروباجندا» موجهة أكثر منها حقائق أو تحليلات اقتصادية رصينة؛ وهو ما وجه الأنظار للعامل الخارجي المتمثل في الضغوط الأمريكية والعقوبات الاقتصادية وسحب الأموال والمضاربة على الليرة التركية، وغيرها.

إجراءات وارتدادات

امتصت الحكومة التركية الصدمة الأولى، ثم بدأت بإجراءات المواجهة؛ فطمأنت القطاع المصرفي والأسواق والمستثمرين أنه لن تكون هناك إجراءات استثنائية ولا وضع يد من قبل الدولة على العملات الأجنبية، كما أشاعت بعض الجهات، ثم بدأت بسلسلة قرارات مرتبطة بضخ أموال في السوق، ودعم الشركات المستدينة، وجدولة ضرائبها وديونها للدولة، وتسهيل القروض الحكومية للشركات، وضبط عمليات التحويل، وغيرها من القرارات التي ثبتت سعر الليرة مقابل العملات الأجنبية حتى لحظة كتابة هذه السطور.

في المقابل، وضعت الحكومة التركية الهزة الاقتصادية في سياق الضغوط الخارجية على البلاد والحكومة، وطالبت المواطنين بالثقة والدعم والمشاركة في «الحرب الاقتصادية»، وهو ما كان؛ فإضافة إلى القطاع الخاص والشركات الكبيرة والتجمعات الاقتصادية وأحزاب المعارضة التي أعلنت تأييداً ودعماً واضحين للحكومة أمام الضغوط الأمريكية (وإن انتقدت المعارضة بعض السياسات المالية)، بدأت حملات بين المواطنين لتصريف العملات الأجنبية لليرة التركية لدعمها وحماية كرامتها، وفق تعبير «أردوغان».

وقد شاركت في هذه الحملات بعض الشعوب العربية، إضافة للجاليات العربية في تركيا، التي قامت بتصريف العملات الأجنبية لليرة التركية من جهة، ودعت لحملة دعم وشراء البضائع التركية من جهة أخرى، وهي خطوات لاقت ترحيباً وتقديراً لدى تركيا؛ حكومة وشعباً، إذ حملت معنى التكافل والتضامن في وجه الضغط الأمريكي على تركيا واقتصادها.

إضافة لكل ذلك، صدرت تصريحات داعمة لتركيا ورافضة للإجراءات العقابية الأمريكية من عدة أطراف، مثل الصين وروسيا وإيران، لكن الأكثر دلالة بينها كان الموقف الأوروبي الذي قادته ألمانيا، وهو ما يشير إلى أزمة ثقة بين الدول الأوروبية و«ترمب» الذي يبدو أن إجراءاته تهدد حرية التجارة العالمية والاقتصاد العالمي بشكل مباشر وغير مباشر.

وعلى المدى البعيد، أعلنت وزارة الخزينة والمالية التركية عن خطة متوسطة الأمد تهدف إلى علاج مشكلات الاقتصاد التركي، مثل التضخم والاستدانة وعجز الحساب الجاري، من خلال زيادة الإنتاج والتصنيع ودعم بعض القطاعات، بحيث تكون تركيا أكثر قدرة في المستقبل على مواجهة الضغوط التي لا يبدو أنها ستتوقف.

ختاماً: قد لا تكون العقوبات الأمريكية هي الأخيرة في ظل تهديدات «ترمب» ونائبه «بنس»، خصوصاً أنهما راغبان في جذب أصوات الإنجيليين في انتخابات الكونجرس النصفية في نوفمبر المقبل؛ بما يعني احتمالية حصول هزات أخرى قريبة، لكن في كل الأحوال، لا يبدو أن أنقرة جزعة أو في أزمة بلا حل، ولكنها تسير في مسارين متوازيين؛ أحدهما آني متعلق بضخ السيولة في البلاد عبر جذب الاستثمارات، والآخر بعيد المدى متعلق بتقوية الاقتصاد وعلاج مشكلاته؛ ما يجعله أقوى وأكثر استقراراً ومقاومة.

ولعل الشعار الذي رفعه «أردوغان» «سننتصر»، والعنوان الذي رفعه وزير المالية «هدفنا ليس الخروج من الأزمة، بل تحقيق أهداف 2023» يشيران إلى نوع من الثقة على المدى البعيد، نرجو أن تكون في مكانها.

Exit mobile version