الاستبداد أساس التحديات التي تواجه الأمة العربية والإسلامية

– النفَس الطائفي ستكون مآلاته خطيرة على المستوى الجيوستراتيجي لواقع المنطقة

– المجتمعات الإسلامية بحاجة إلى إعادة تأسيس التركيبة النفسية الاجتماعية التكافلية والفكرية والسياسية

– مشكلتنا أننا في كثير من القضايا نظل في عموميات مطالبنا الراقية نعبر عنها بعواطفنا الجياشة

 

أكد أستاذ الدراسات الإسلامية وخبير الاستشارات والتدريب بالمغرب د. محمد الحساني أن الاستبداد هو أساس التحديات التي تواجه الأمة العربية والإسلامية؛ فعنه تفرعت الكثير من الإشكالات سواء أكان ذلك على المستوى السياسي أم الاجتماعي أم الاقتصادي، ودعا إلى ضرورة معرفة قواعد اللعبة السياسية المحلية والعالمية، مشيراً إلى أن التربية هي بداية السير؛ فمتى كانت متينة على هدى من الله كان التغيير ممكناً.

وفي هذا السياق، أكد أستاذ الدراسات الإسلامية المغربي في الحوار الذي أجرته معه «المجتمع»، أن للجماعة في حقنا مطلب شرعي ومكسب ينبغي لنا أن نشمر لتحقيقه، ونجتهد ونخوض معارك مع القوى المعاكسة المادية الخارجية والنفسية الذاتية والعدوة المعترضة.

* بداية نرحب بكم، واسمح لنا بهذا السؤال التشريحي لأزمة الأمة حالياً؛ فالناظر في واقع الأمة لا يجد صعوبة في تحديد نقاط الضعف فيها، فبرأيك ما أهم التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية بالنظر للواقع العربي والإسلامي عموماً؟

– لا شك أن الأعطاب في جسم الأمة العربية والإسلامية واضحة للعيان، فالأعطاب ليست وليدة اللحظة، بل في حقيقة الأمر هي نتاج ما وقع من انكسار في مسار تاريخ الأمة العربية والإسلامية من تحول عميق في نمط التدبير العام للشأن السياسي للأمة، وتحولها من حكم شوري قائم على احترام إرادة الأمة واعتبارها مرتكز الشرعية إلى نظام حكم عاض وجبري، بلغة أخرى إلى حكم استبدادي.

فالاستبداد أساس التحديات التي تواجه الأمة العربية والإسلامية؛ فعنه تفرعت الكثير من الإشكالات؛ سواء أكان ذلك على المستوى السياسي أم الاجتماعي أم الاقتصادي، كما أن الوقوف عند تمظهرات ذلك قد يتطلب حواراً خاصاً بذلك حتى نتمكن من إدراك خطورة هذا التحدي، كما أنه لا بد أن يكون واضحاً لدينا دون أدنى لبس أنه دون التخلص من عقبة النظام الاستبدادي؛ فإن الكثير مما نتحدث عن تحقيقه من عناوين مثل الحرية والعدالة والكرامة، والكثير من العناوين الأخرى، سوف تبقى مجرد أماني معسولة ليس إلا.

أما التحدي الثاني الذي يواجه الأمة الإسلامية، فيتمثل في حالة التشرذم التي أصبحت تتعمق في جسدها، ولعل آخرها ما يقع الآن في منطقة الخليج، والعراق، وما يقع باليمن، ناهيك عما تعيشه سورية الجريحة، فازداد الجسم العربي والإسلامي ضعفاً؛ فكان أقبح ما فيه هذا التقارب بخطى حثيثة مع الكيان المحتل لفلسطين الأبية، وما أقدم عليه رئيس البيت الأبيض من خطوات كان على رأسها القرار المشؤوم بنقل سفارته إلى القدس الشريف، وما يحمله من دلالات.

أما ثالث هذه التحديات؛ فهذا النفس الطائفي الذي انخرطت فيه الأمة العربية والإسلامية بوعي منها أو بغير وعي لمآلاته، التي ستكون خطيرة على المستوى الجيوستراتيجي لواقع المنطقة، هذا وتبقى هناك تحديات أخرى وما أكثرها في واقعنا العربي الإسلامي حاولنا فقط أن نشير إلى أهمها.

* كما ذكرت، فإن الاستبداد أول هذه التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية، برأيك متى نتحرر منه؟ وكيف نقوم بمواجهته؟

– طاعون الاستبداد هو التحدي الرئيس، وهو الطاعون الذي أصاب جسم الأمة، وهو داء قُروني؛ أصاب الأمة منذ قرون، وليس وليد اللحظة؛ ولذلك فإن الحديث عن كيفية التحرر منه ومواجهته لا بد أن نعرف أولاً أن جسم الأمة مريض، ونفوس المسلمين وعقولهم مريضة، ومجتمعاتنا مشتتة، أطاح بها الاستبداد الداخلي الممالئ الخانع للقوى الغازية، العاجز عن ضمان حرية الفرد وكرامته وعزة الأمة، وأمام هذا الطاعون نحن بحاجة إلى إعادة تأسيس التركيبة النفسية الاجتماعية التكافلية والفكرية والسياسية لمجتمعاتنا، وأتصور أنه لكي نتحرر من وطأة الاستبداد لا بد لنا من دعوة واضحة تنير الطريق أمام الأمة، ولا بد من تربية وتعاون لصف متراص من المؤمنين يتوسطون الشعب، ويقيمون صلبه، يتغلغلون في بيئاته، شاهدين حاضرين، ثابتين على خطى هادفة، يأتمّ الشعب بها يتابعها ويساندها، ويستلهم من رسوخها في الحق ودروبها على السير على شريعة مستقيمة لا تتلوى، وعلى منهاج لا تضطرب بالسائرين عليه مفاجآت الرزايا؛ فلا بد من صمود ومرونة وخط ثابت وحركة حكيمة، لا بد أن نعرف قواعد اللعبة السياسية المحلية والعالمية؛ فالتربية بداية السير، فمتى كانت متينة على هدى من الله كان التغيير ممكناً. 

* هل قدم الفكر الإسلامي الحديث ما يعالج ثقافة الاستبداد من خلال بعض الكتابات، أم أنه ما زال مقصراً في هذا الجانب؟

– هذا سؤال حقيقة غاية في الأهمية؛ لأنه يعتبر من الأسئلة المحورية التي ينبغي الاشتغال عليها؛ لأن الأمر ليس بتلك البساطة التي نتصورها، فهذا السؤال في حد ذاته يحتاج إلى تفصيل، ويحتاج إلى مزيد بحث وتدقيق، كما أنه يحتاج إلى جرأة في التعاطي؛ إذ لا بد أن نستحضر أننا في كثير من القضايا -ومنها هذا الموضوع- نبقى في عموميات مطالبنا الراقية، نعبر عنها بعواطفنا الجياشة الصادقة المشتاقة بعدُ إلى الإسلام الأغر.

وحتى نغوص في الموضوع بشكل أكثر دقة، وهنا قد يتفق معي البعض أو يختلف، ولكن المهم هو أن نكسر الأقفال عن هذه المواضيع التي يعتبرها البعض وكأنها نصوص قطعية، وهذا واحد من التحديات التي يواجهها الفكر الإسلامي خاصة مع تصاعد صيحات الفكر الجامي المدخلي.

وها هنا لا بد من ملاحظة مهمة؛ وهي أننا لا نقصد الانتقاص من شوكة ملوك المسلمين، لا سيما منهم من أبلوا البلاء الحسن في الدفاع عن الحمى، لا وليس قصدنا هنا التعرض لنقد الأشخاص وقد كان منهم الصالحون ومنهم دون ذلك، لكن نقصد نظام الحكم، ما دمنا نتناول موضوعاً شائكاً كما قلت في البداية، لا بد أن نعترف أننا إن كنا نعاني من الاستبداد فإننا أيضاً نعاني من الذهنية المتحجرة الواقفة على تقديس التاريخ الإسلامي لا تقبل بوجه أن ننظر إليه للعبرة.

إننا من خلال ما طرحناه نريد أن نبين أنه ما زال أمام الفكر الإسلامي الكثير من العمل فيما يتعلق بالموضوع الذي نحن بصدده، كما أننا لم نفقه ولم نستوعب أن فقه سلفنا الصالح الذين عاشوا رهائن مقهورة في قبضة العض والجبر، وأن الحديث عن الحكم وسلطانه ما كان ليقبل والسيف مصلت.

* ما الرهانات التي يمكن للأمة من خلالها أن تحقق ذاتها وهويتها؟

– الرهانات أو الحلول التي يمكن من خلالها أن نحقق ذاتنا وهويتنا سوف أجملها لكم في خمس نقاط، أراها جوهرية ومفصلية في تحقيق ما نصبو إليه.

1- التوبة الجماعية: إن الرجوع إلى الله والإنابة إليه لهو من أهم ما نتخذ من أسباب للخروج من التخلف واستدرار الرزق، التوبة والإيمان والتقوى علاج تخلفنا وبؤسنا التاريخي.

2- الخشية من الله وحده لا سواه: وتمكّن هذه الملكة من القلب يجعل الإنسان متفانياً في طاعة الله ومحتكماً لشريعته في سره وعلنه، لا يخاف في الله لومة لائم، ولا من ظلم مستبد غاشم.

3- التحلي بالصبر، والاستعانة بالله وحده في مواجهة الفتن: إن امتلاك النفس وحملها على مكاره الشهوة والهوى، ومحاب الله ورسوله رأس الأخلاق، وكمال الأخلاق كمال الدين.

4- الوحدة والتضامن ونبذ الخلاف والتفرق: إن أمتنا ستبقى مشتتة حتى يلتئم شملنا ونكون أمة واحدة، في حقنا مطلب شرعي ومكسب ينبغي أن نشمر لتحقيقه ونجتهد ونخوض معارك مع القوى المعاكسة المادية الخارجية والنفسية الذاتية والعدوة المعترضة.

5- الالتزام بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وإنه ما تأخر المسلمون إلا لخمول ذمة المسلم وسكوته عن كلمة الحق أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر ونصحاً خاصاً وعاماً، الدين النصيحة لله بقيام الجماعة والفرد على حدوده، حراسة يقظة متوثبة، الدين النصيحة لرسوله بالحرص الشديد على اتباعه في الكليات والجزئيات، كليات إقامة الحكم الإسلامي وإحياء الأمة بالإيمان وجزئيات الفقه والعبادة.

الدين النصيحة لأئمة المسلمين بدءاً بإقامة أولي الأمر منا لا من غيرنا، الدين النصيحة لعامة المسلمين بتحريضهم على الإيمان وإيقاف الذهنية الرعوية لتصبح همة قادرة على قلع جذور الظلم وبناء مجتمع الأخوة والعدل.

* هل حراك الريف المغربي سببه الوضع الاقتصادي فقط أم له أسباب أخرى؟    

– احتجاجات الريف ظاهرة، وحالة سوسيولوجية، تستحق التوقف عندها لدراستها وتحليلها، فهي استفادت من التراكم التاريخي للاحتجاجات السلمية في العالم، ومن زخم الحركة الاحتجاجية في المغرب الذي لم يتوقف منذ استقلاله.

وفي كل مرة كان يأخذ شكلاً مبدعاً تجاوز حدود البلاد، ولا يخفى اليوم أن النواة الصلبة التي قام عليها «حراك الريف» على طول مسار احتجاجهم، وضع المحتجّون مسافة فاصلة بينهم وبين جميع الأحزاب.

إن الحراك في الريف أقرب في مضمونه وشكله إلى الحركة الاحتجاجية بسيدي إفني (2005 – 2008م)، ويمكن اعتباره نسخة متطورة له، كما يتقاطع أيضاً في الكثير من المميزات مع انتفاضة الريف عام 1958 – 1959م من حيث انخراط عموم سكان المنطقة.

يمكن استخلاص ثلاثة عوامل أساسية لاندلاع حراك الريف، ويمكن أن يتجدد في أي منطقة من المغرب وحتى خارجه إذا توافرت هذه العناصر الثلاثة والمتمثلة في أولاً: احتقان اجتماعي واقتصادي، وثانياً: الوعي بوجود ظلم جماعي وتاريخي، وثالثاً: ضعف الوسائط بين الشعب والدولة من أحزاب سياسية وجمعيات مدنية وأعيان تقليديين، إذا توافر هذا الثالوث فلن نحتاج إلا إلى حدث مأساوي لينفجر الوضع، ويبدو أن المدن ذات الكثافة الأمازيغية هي المرشحة أكثر لمثل هذه الحركات الاحتجاجية والانتفاضات الشعبية المحلية.

يمكن رصد عدة عناصر أعطت لهذا الحراك قوته وصيته الذي تجاوز حدود المغرب.

الأول: هو السلمية ونبذ العنف؛ منذ بداية احتجاجات منطقة الريف، حمل المشاركون فيها شعارات سلمية، وكان أحد أكثر الشعارات الذي يردّده المتظاهرون كلما تعرّضوا لقمع أو محاصرة قوات الأمن هو «سلمية سلمية.. لا حجرة لا جنوية»، أي بدون استعمال الحجر أو السكين، في إشارة رمزية إلى الحرص على الابتعاد عن كل أشكال العنف والاستفزاز، وفي أكثر من مسيرة داخل مدن الريف الكبرى، كان النشطاء ينظمون سلاسل بشرية لحماية الممتلكات العمومية وسيارات الشرطة، وفي نهاية كل مسيرة احتجاجية، يقوم آخرون بتنظيف الشوارع والأزقة في مظاهر حضارية راقية.

فالحراك أدرك، منذ اليوم الأول، أن سر قوته يكمن في سلمية احتجاجاته ونبذه العنف.

الثاني: مطالب اجتماعية محضة، كانت أحد عناصر قوة «حراك الريف» رفعه مطالب اجتماعية محضة، وبسيطة بساطة أهله، من قبيل مطلب بناء مستشفى متخصص في معالجة أمراض السرطان في منطقة تسجل سنوياً أكبر نسبة من الإصابات بهذا الداء الفتاك في المغرب، ومطلب بناء نواة جامعية لأبناء المنطقة الذين يضطرون للسفر بعيداً من أجل إتمام دراساتهم الجامعية، وأخيراً مطلب جماعي متمثل في إيجاد فرص للشغل لشباب المنطقة العاطلين، وغالباً ما كان يتم صياغة هذا المطلب في صيغة ملتمس، وليس بوصفه حقاً يقرّه الدستور المغربي، وتفرضه حقوق المواطنة.

الثالث: غياب التأطير السياسي، فلم يحمل المتظاهرون، منذ اليوم الأول، الذي قرّروا فيه النزول تلقائياً إلى الشارع، عقب مقتل بائع سمك من مدينتهم في ظروف مأساوية، أي لون سياسي، وعلى طول مسار احتجاجهم، وضعوا مسافة فاصلة بينهم وبين جميع الأحزاب السياسية التي يصفونها بـ«الدكاكين السياسية»، ورفضوا الانضواء تحت راية النقابات المهنية، وأكثر من ذلك، حرصوا على ألا يحمل خطابهم أو شعاراتهم أي مطالب ذات نفحة سياسية.

الرابع: الإبداع في أشكال التظاهر والاحتجاج، منذ أن بدأت الاحتجاجات في منطقة الريف، كانت أحد عناصر قوة «حراك الريف» رفعه مطالب اجتماعية محضة، وبسيطة بساطة أهله أبهرت العالم بأشكالها النضالية المبدعة من مسيرات ووقفات واعتصامات وإضرابات وعصيان مدني، وعندما تعرّض المحتجون للقمع في الشوارع نهاراً، نقلوا احتجاجاتهم إلى الليل، وفي كل مرة كانوا يبدعون فيها، مستعملين أضواء الهواتف النقالة، والضرب على الطناجر.

العنصر الخامس: الصمود والتحدي والاستعداد للتضحية؛ إن أحد أهم عناصر قوة احتجاجات «حراك الريف» هو الإصرار على الاستمرار في النضال والصمود حتى النهاية، بالعزيمة والقوة نفسها، والاستعداد دائماً للتضحية، فكلما اعتقلت السلطات من يسميهم الإعلام «قادة الحراك» يولد قادة جدد، ما نجح فيه قادة الحراك الحقيقيون هو إعطاء النموذج للآخرين، لذلك كان زعيم الحراك وأيقونته، المعتقل ناصر الزفزافي، في آخر كل نشاط احتجاجي، عندما كان حراً طليقاً، يحمل مصحفه عالياً وسط الجماهير التي تردّد وراءه قسمه بعدم خيانة الحراك، والاستمرار فيه حتى تحقيق مطالبه، مهما كانت المصاعب والعراقيل.

وحتى داخل السجون، بدأ المعتقلون ينظمون أنفسهم ويبدعون أشكالاً نضالية جديدة من وراء القضبان، جديدها الدعوة إلى معركة الأمعاء الفارغة حتى تحقيق الحرية أو الشهادة، كما جاء في بيان المعتقلين المضربين الذين بدؤوا يسرّبون نداءات صوتية عبارة عن «وداع أخير» من وراء القضبان إلى الأهل والأصدقاء، في إشارة منهم على إصرارهم على الاستمرار في إضرابهم عن الطعام، حتى الحرية أو الشهادة، كما يقولون. 

نحن أمام حراك يتداخل فيه السياسي بالاقتصادي الاجتماعي بالتاريخي، حراك هو وليد معاناة طويلة الأمد.

ولعل المرسوم الملكي رقم (1.58.381) الذي يعتبر إقليم الحسيمة منطقة عسكرية، واحداً من أهم صورها القاتمة، حيث جعل هذه المنطقة تعيش حالة من التهميش المقصود.

رغم محاولة الدولة فك ذلك من خلال مشاريع بعيدة كل البعد عن حاجيات سكان الريف عموماً والحسيمة خصوصاً الملحة المرتبطة بالشغل والصحة والتعليم، كل هذا كان نتيجته ما تم الحديث عنه منذ البداية الذي يشهد الآن تطوراً مع صدور الأحكام التي لا يختلف في وصفها كل المتتبعين للملف بأنها كانت قاسية جداً، ستزيد هذا الملف تعقيداً، وستجعل لدى ساكني الريف أن الدولة في المغرب ليس لها أي نية في تجاوز التاريخ الذي ظل وسيظل للأسف عائقاً أمام ما يمكن أن نسميه بالمصالحة الوطنية.

Exit mobile version