ارتفاع التضخم يكشف مكامن ضعف الاقتصاديات العربية

 

– الارتفاع الكبير في التضخم بمصر يرجع إلى اضطراب سعر العملة وإجراءات صندوق النقد الدولي

– التفاوت بين دول الخليج بالتضخم سببه اختلاف عدد السكان وانعكاساته على الموازنة العامة

– في عام 2018م استطاعت دول الخليج باستثناء البحرين الوصول لأسعار نفط تمكنها من تجاوز عجز الموازنة

– معدلات النمو الاقتصادي شهدت تراجعاً كبيراً كان عام 2017م هو الأسوأ فيها

– ما زالت فاتورة استيراد الغذاء في تصاعد مستمر بكافة الدول العربية حيث وصلت 33.8 مليار دولار عام 2015م

 

يعد التضخم من أسوأ الأمراض الاقتصادية التي تضر بالمجتمعات، لذلك تحرص البنوك المركزية على وضع مواجهة التضخم في مقدمة أولوياتها، لما يمثله من أعباء على المنتجين والمستهلكين على حد سواء، بل وعلى موازنة الدولة، التي من المفترض أن تتجه أهدافها لتخفيف الأعباء عن مواطنيها، ووفق إحصاءات تقرير «آفاق الاقتصاديات العربية لعام 2018»، الصادر عن المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات، فإن المنطقة العربية شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في معدلات التضخم منذ عام 2013م وحتى الآن.

في خلال الفترة من عام 2000 حتى عام 2013م بلغ متوسط معدل التضخم بالمنطقة العربية 4.1%، بينما شهد عام 2014م صعوداً في معدل التضخم حيث بلغ 4.8%، وفي عامي 2016 و2017م بلغ معدل التضخم 5.3% و7.8% على التوالي، وإن كانت توقعات تقرير مؤسسة الاستثمار تذهب إلى تراجع معدل التضخم في عام 2018م لنحو 6.4%.

والجدير بالذكر هنا أن تراجع معدل التضخم وإن كان شيئاً إيجابياً فإنه لا يعني تراجع الأسعار بالأسواق، فتراجع معدل التضخم يعني أن المعدلات التي ترتفع بها الأسعار ستقل عن معدلات عام المقارنة.

شأن العديد من المؤشرات الاقتصادية، تتباين معدلات أداء الدول العربية، فالتضخم وإن كان قد شهد معدلات مرتفعة في كافة الاقتصاديات العربية، إلا أنه اختلف في تلك المعدلات من دولة إلى أخرى؛ فدول المغرب العربي تختلف عن دول المشرق العربي، ومن ثمة تختلف عن دول الخليج العربي.

ومن الصعوبة بمكان أن نتحدث في هذا الشأن حديثاً إجمالياً عن الأداء الإقليمي فيما يتعلق بمعدل التضخم أو غيره من المؤشرات الاقتصادية الأخرى، فنحن لا نتحدث عن معدل التضخم في الاقتصاد العربي، لأنه لا يوجد اقتصاد عربي، ولكن توجد اقتصاديات عربية، لا يجمعها سياسات موحدة على الصعيد المالي والنقدي والتجاري والاستثماري والتوظيف.

 ومن هنا نتناول ما يتواكب مع واقع اقتصاديات المنطقة العربية؛ حيث لا يجمع الأداء الاقتصادي في المنطقة العربية سوى العملية الحسابية، لجمع إحصاءات أداء الدول العربية في مؤشر معين.

وحسب الإحصاءات المنشورة بتقرير مؤسسة الاستثمار، فإن معدل التضخم كان الأعلى بين الدول العربية في عام 2017م، كان مرتفعا في مصر بنحو 29.9%، تليها السودان بمعدل تضخم 26.9%، وكانت الجزائر في المرتبة الثالثة بنحو 5.5%، ويرجع الارتفاع الكبير في معدل التضخم في كل من مصر والسودان إلى الاضطراب في سعر العملة الوطنية، والإجراءات شديدة السلبية التي طبقتها مصر تحت ضغوط صندوق النقد الدولي، كذلك سوء الأداء الاقتصادي بالسودان، ووجود مضاربات شديدة على عملتها المحلية، بسبب تراجع تدفقات النقد الأجنبي إليها، على الرغم من الرفع الجزئي للعقوبات الاقتصادية الأمريكية عنها.

أما الوضع في الخليج، فتبين الإحصاءات أن السعودية شهدت أعلى معدل تضخم في عام 2016م بنحو 3.5%، بعد أن كان 2.2% في عام 2015م، ويرجع ذلك إلى مجموعة الإجراءات التي اتخذتها المملكة بخصوص رفع أسعار الوقود، وكذلك خدمات عامة أخرى مثل المياه والكهرباء، فضلاً عن رسوم خدمات الوافدين، وإن كان تحسن أسعار النفط في السوق الدولية خلال الشهور الأخيرة من عام 2017 وكذلك في عام 2018م، أجَّل بعض الإجراءات التي كانت تعزم السعودية اتخذها فيما يتعلق بتحرر سعر السلع والخدمات العامة، وتقليص نفقات الدعم.

أما الإمارات، فكان عام 2015م هو الأعلى بالنسبة لمعدل التضخم، مقارنة بباقي سنوات الفترة بين عامي 2014 – 2017م، فقد بلغ معدل التضخم في عام 2015م بالإمارات نحو 4.1%، بعد أن كان 2.3% في عام 2014م، أما قطر فكان عام 2016م هو الأعلى من حيث معدل التضخم حيث بلغ 3.5% مقارنة بـ1.8% في عام 2015م، وكذلك الوضع في الكويت بلغ معدل التضخم الأعلى 3.7% في عام 2015م، وإن كان قد شهد انخفاضاً في عام 2017م حيث بلغ 2.5%.

ويرجع هذا التفاوت فيما بين دول الخليج فيما يتعلق بمعدل التضخم، إلى الاختلاف في عدد السكان، وما يعكسه من تبعات على الموازنة العامة؛ فصندوق النقد الدولي كان قد حدد أسعاراً متباينة فيما يتعلق بسعر النفط الذي يستطيع تحقيق حالة من التوازن بين إيرادات ونفقات الموازنات لدول الخليج، حيث أشارت تلك التقديرات إلى أن البحرين تحتاج إلى سعر نفط 95 دولاراً للبرميل لكي تصل موازنتها لحالة توازن وتغادر حالة العجز التي تعيشها منذ سنوات، بينما يحتاج الوضع في السعودية إلى سعر 75 دولاراً للبرميل، وفي الإمارات تحتاج حالة التوازن بالموازنة إلى أن تكون أسعار النفط عند 60 دولاراً للبرميل، وفي كل من قطر والكويت يحتاج الأمر إلى سعر برميل النفط إلى 45 دولاراً.

وفي ظل الأسعار السائدة بالسوق الدولية للنفط، منذ الشهور الأخيرة من عام 2017م، والفترة الماضية من عام 2018م، استطاعت كافة دول الخليج، باستثناء البحرين، الوصول لأسعار نفط، تمكنها من تجاوز حالة عجز الموازنة، وهو ما يسمح لها بأوضاع مالية، تجعلها تتجاوز حالة الغضب التي اجتاحت مجتمعاتها خلال الأعوام الثلاثة الماضية، بسبب الإجراءات الاقتصادية التقشفية، التي هزت العقد الاجتماعي القائم بين حكومات دول الخليج ومواطنيها، من تقديم دعم سخي لكافة أسعار السلع والخدمات، وهو ما جعل الأكاديميين يصنفون الدعم بالدول النفطية الخليجية بـ»الدعم المكبوت»؛ لأن الأسعار في ذلك الوقت لم تكن تعبر عن الواقع الحقيقي لآليات العرض والطلب، وكانت الموازنات العامة للحكومات الخليجية تتحمل هذا الفارق بين الأسعار الحقيقية، وواقع الأسعار المنخفضة.

أما في منطقة المغرب العربي، فتعد الجزائر هي الأكبر من بين الدول الثلاث من حيث معدلات التضخم، بسبب اعتماد اقتصادها بشكل كبير على العوائد النفطية، التي تراجعت بشكل كبير بسبب الأزمة، وقد كان عام 2016م هو الأعلى من حيث معدل التضخم في الجزائر من بعد عام 2014م، وفي تونس كانت معدلات التضخم في عام 2017م هي الأعلى عند معدل 4.5%، وذلك بفضل السياسات الاقتصادية التي فرضها الصندوق، التي أدت إلى رفع الدعم عن العديد من السلع والخدمات، كان أبرزها النفط.

أما المغرب، فهي الأفضل فيما بين دول المغرب العربي أو حتى من بين الدول العربية؛ حيث كان معدل التضخم بها لا يتجاوز 1.6% في عام 2016م، وانخفض إلى 0.9% في عام 2017م، ويعود ذلك لاستفادة المغرب من انتعاش النشاط السياحي، وكذلك استفادتها من عودة تجارتها الخارجية مع دول الاتحاد الأوروبي خلال السنوات الثلاث الماضية.

أسباب ارتفاع التضخم

ثمة مجموعة من العوامل الاقتصادية أدت إلى ارتفاع معدلات التضخم بالدول العربية، منها ما يتعلق بالسياسات التحررية التي اتبعتها العديد من الدول العربية نتيجة توقيعها اتفاقيات تخص الإصلاح الاقتصادي مع صندوق النقد الدولي، أو حتى تلك التي لم توقع اتفاقيات، ولكنها استرشدت بتقارير مجموعة خبراء صندوق النقد الدولي كما هي حال الدول الخليجية النفطية، في السعودية والإمارات والكويت وقطر.

وكذلك كانت الأحداث التي شهدتها بعض البلدان العربية على الصعيدين السياسي والأمني أثراً واضحاً في ارتفاع معدلات التضخم بالمنطقة؛ حيث تراجعت معدلات النمو الاقتصادي، وانخفضت العملات المحلية؛ وهو ما أدى إلى زيادة اعتماد هذه البلدان على الخارج في تدبير احتياجاتها الأساسية، كما هي الحال في ليبيا واليمن وسورية والعراق.

فعلى صعيد الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة العربية، توضح الأرقام الخاصة بالتقرير الذي أشرنا إليه عاليه، أن قيمة الناتج المحلي تراجعت من 2.79 مليار دولار في عام 2014م، إلى 2.40 مليار دولار و2.25 مليار دولار على التوالي في عامي 2016 و2017م، كما أن معدلات النمو الاقتصادي شهدت هي الأخرى تراجعاً بطبيعة الحال حيث كان عام 2017م هو الأسوأ، حيث بلغ معدل النمو بالمنطقة العربية 2%، مقارنة بمتوسط 5.3% خلال الفترة 2000 – 2013م.

ولا يخفى على المتابع للشأن العربي أن تراجع كل من قيمة الناتج المحلي الإجمالي، وكذلك معدل النمو الاقتصادي بالمنطقة العربية، كان نتيجة طبيعة لأزمة انهيار أسعار النفط بعد منتصف عام 2014م، التي لم تشهد تحسناً ملحوظاً إلا مع بداية عام 2018م.

وبالإضافة إلى العوامل السابقة من الاضطرابات السياسية والأمنية بدول المنطقة، وكذلك التداعيات السلبية لأزمة انهيار النفط في السوق الدولية، تعاني الاقتصاديات العربية بشكل عام من ضعف هياكلها الاقتصادية، وتراجع مساهمة القيمة المضافة في كافة أنشطتها الاقتصادية؛ فما زالت فاتورة استيراد الغذاء في تصاعد مستمر على مستوى كافة الدول العربية؛ حيث وصلت قيمتها 33.8 مليار دولار في عام 2015م، وفق أرقام التقرير الاقتصادي العربي الموحدة لعام 2017م.

وإذا ما نظرنا لهيكل التجارة الخارجية العربية، نجد أنها تعتمد على السلع التقليدية والمواد الخام من حيث الصادرات؛ فقد بلغت مساهمة صادرات النفط والغاز نسبة 63.1% من قيمة الصادرات السلعية العربية في عام 2016م، بينما بلغت الصادرات الزراعية 4.6%، والصادرات السلع الصناعية 32.3%، في حين أن هيكل الواردات يكرس استمرار اعتماد الاقتصاديات العربية على الخارج، فقد بلغت نسبة الواردات من السلع الصناعية 75.1% من إجمالي الواردات العربية، كما بلغت واردات الوقود نسبة 9.4%، بينما الواردات الزراعية بلغت نسبة 14.7% من إجمالي الواردات.

وبالتالي سيظل معدل التضخم في المنطقة العربية يمثل تهديداً للمجتمعات ولصانع السياسة، ما لم تتجه الحكومات العربية بشكل حقيقي لتغيير هيكل تلك الاقتصاديات لتعتمد على الصناعة والتكنولوجيا، ولتكتفي ذاتياً بنسب معتبرة في مجال الاحتياجات الزراعية والغذاء.

مزيد من التضخم

كما أشرنا في السطور السابقة، أدت أزمة انهيار أسعار النفط في السوق الدولية إلى إحداث حالة من ارتفاع معدلات التضخم، ويتوقع أن يظل النفط مصدراً للتضخم في الدول العربية خلال المرحلة القادمة، بسبب أن الدول العربية المستوردة للنفط، سوف تواجه مشكلة ارتفاع أسعاره خلال الفترة القادمة؛ حيث ما زالت أسعاره تلامس 70 دولاراً في المتوسط، ويتوقع أن تشهد المزيد من الارتفاع، ومن هنا لن تجد حكومة الدول المستوردة للنفط سوى رفع أسعار الوقود، ولا يحتاج الأمر لإيضاح أثر ذلك الأمر على رفع معدلات التضخم.

أما الدول المنتجة للنفط -التي تحسنت أوضاعها المالية بعض الشيء خلال الشهور الماضية من عام 2018م- فإن الأمر سوف يتوقف على ما سوف تتبعه من سياسات اقتصادية، هل ستؤجل خطتها في الإجراءات التقشفية وعدم رفع أسعار المزيد من السلع والخدمات؟ أم ستستمر في تلك الإجراءات، وتوجه الفوائض المتحققة إلى سداد المديونيات الخارجية التي ترامت على مدار السنوات الأربع الماضية، وتسعى لتوجيه جزء مهم من الفوائض النفطية لمشاريع استثمارية إنتاجية حقيقية تغير من هيكل وطبيعة الاقتصاديات النفطية العربية، ليكون لديها سياج حقيقي لمواجهة التضخم وغيرها من التقلبات الاقتصادية الداخلية والخارجية، سوف تظهر الأيام القادمة التوجهات الاقتصادية النفطية.

Exit mobile version