سيدنا الخضر (قصة قصيرة)

طالت غيبتي في بلاد الله وحيداً إلا من هم يلازمني، ثيابي ممزقة توشك تلك الخرق البالية أن تكشف ما خفي عن أعين الناظرين في وله، وجسدي واهن فما تنفع كسرات خبز وماء أن تقيم عليلاً، أتعبني سر حاولت تكتمه؛ فالتستر وراء الأحوال والكنى لا يدوم، إنه عصر البطاقات الممغنطة، في كل حارة وشارع عين ترصد حتى ما دب بالليل، يكتفون بالعد والحصر، ثم تطور بهم الحال إلى شيء أكثر فداحة؛ إنهم يخصون الذكور، وقد يتركون النساء بلا أثداء؛ لا تجد الصغار قطرات لبن! وبعد يتراقصون طرباً، وتدور فوق خشبة المسرح فنون وتؤدى أدوار يقال عنها: إنها ملهاة!

أنا درويش في حضرة السيدة، إنها تجمع أهل الطريق في قبو أخضر، تسرد عليهم سيرة الحسين يوم كانت كربلاء، تعددت المنافي والمهاجر في بلاد ما تزال تسكن الكهف، رأس الحسين محمولاً في صرة بيضاء تقطر دماء ساخناً، يتدفق كل آونة، جف النهر ولكنه ما يزال يخضب الثرى.

ولي الله الخضر زارني في تلك الغيبة مرة ومرة، في يمناه جريدة خضراء، يحمل سقاء وتمراً، ماؤه أحلى من العسل، تمره غذاء لبطني الضامرة، لم أذق طعم الراحة، تمتم بدعائه الرباني، أعاذني بالله من شر الشياطين، خط بالجريدة طريقاً، ينظر شيئاً في عالم الغيب، تقول أمي الطاهرة: مكشوف عنه الحجاب!

حديثها عنه عند نومي ترك بصمته في عقلي، يحسبني الآخرون ملتاثاً، لا يهم فلي عالم صاف، تحلو الحكاية مع الأوراد؛ عن شيخ ينطق بالحكمة، يمسك بمسبحة خضراء، حباتها مائة إلا واحدة، تكمل الطاهرة: إنه يعرف اسم الله الأعظم!

تدوي الريح وتصفر من هولها الصحراء، تعوي الذئاب، تنبح الكلاب، تتساقط الأمطار، تشتعل السماء وتنذر رعداً وبرقاً، ذات العينين الزرقاء والسارح شعرها في مجاهل الهوى، تذهل نفسي عن رغباتها، أبحث عنه لكنه يغيب، أنادي عليه فلا يرد، وأخيراً جاءني طيفه، كنت مشدوداً بخيط سحري ناحيته، عاتبني، أطرقت في صمت، مسح على صدري.

في الرؤيا مساحة للبوح، تتقارب المسافات، تختلط الصور، تتعدد الأشكال ومن ثم تتداخل، يربض الشيطان عند حافة البئر المسحور، تخرج أمي إبريق الماء المبارك؛ حين طافت بالبيت جاءت به من زمزم، غطتني بثياب جدي حين كان محرماً.

تقول العجائز: إنني ولدت مختوناً، لا أعلم لذلك سبباً، تنتشر تلك الحكاية على ألسنة الرواة، يرفعون لي مقاماً علوياً، تتناثر تفالات ريقي، تملأ المكان همهمة لساني الذي يهذر بكلام قد يقودني إلى المقصلة، كما أنهن لا يدرين أنني منبوذ من البنات ذوات الخد الأحمر، لا تكتب لي واحدة رسالة، كما أن أحداً لا يخاف من درويش يعيش في عالم الروح.

وحده يمتلك ترياقي، يمسح بيمينه؛ أرتد فتى قوياً، تنبت الشعرات في صدري، يتراقص الهوى في طريقي؛ ترمقني العذراء بنظرة عين.

أتبع خطوه يملأ المحروسة بركة، يقهقه الشيطان الساكن عند حافة البئر، لما جاء الخضر ارتعد، تجمدت وساوسه، تزهر الأشجار ذات الورد الأبيض، يرسم العم محروس نخلة وحمامة فوق باب البيت الطيني الكبير، يصر المطرود من باب الله أن يخدعه؛ في خلفية اللوحة توجد تفاصيل حادثة مضى عليها زمن: شج في جبهتي، حول في عيني اليسرى، كنت أتبع غجرية، حبستني في خزان السمن، يومها كنت مغضباً، ضربت الجرار، انساب اللبن، هوت علي بالعصا؛ نمت عصراً، جاء الخضر فرقاني، مسح على صدري.

المشوار حلو وجميل، رغم أن عقباته صعبة، قطاره بطيء، يركب فيه الجوعى والحيارى، يتلفت أبناء الليل، يستولون على حافظات النقود، يسرقون الحمير المربوطة عند عزبة الشيخ سلامة، في حنية الطريق تربض شجرة جميز تعلوها جنية حمراء، حكايات مدفونة في الأرض الشراقي، ثعبان البركة الممتلئة بالروث والطحالب، أبو رجل مسلوخة يحمل مشرطاً، ما نجت منه بكر، جربت الجري وذيلي في أسناني، سلامة الوصول تحتاج الزاد!

مشيت وراءه، أعطاني العهد؛ لكنه تركني بلا رغبة، فأنا منذور ليوم، مباركاً أينما ذهبت، ففي أرض الله متسع لأهل الطريق.

تراودني جنية الليل؛ فللنفس اشتهاء، وللهوى ميل، وللسر كشف، يتراقص شيطان حافة البئر؛ يلقى حصاة تحدث دوامة، أنزل الماء، أدور عكس عقارب الساعة، يتسلل الماء إلى جوفي، أعلم أن رمضان لم ينته بعد، يمد سيدنا كفه فيمنع الماء عن فمي، ما فات كان رياً من الله، يتمتم بدعائه المبارك: أن يغفر الله لي زلتي، يشتاط الشيطان غضباً، يضربه بالجريدة الخضراء (ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً) أتبعه في صمت، أرتدي العمامة الخضراء، جاء بها جدي يوم أن جاور في الأزهر؛ أخبرتكم من قبل أنني مبارك حين ولدت.

حين تغيب شمس النهار تدب ثعالب الليل؛ تفعل المنكر، بل وربما تشرب الدم.

ألقى في أذني بالسر.

Exit mobile version