تخاريف المريد (قصة قصيرة)

يبدو أن الأشياء كاالكائنات الحية مصابة بالتبلد، ساعة الحائط تعاني من فقدان الذاكرة، تتوقف وتتحرك كما يحلو لها، ورقة الزمن لا تبرح اليوم الأخير من الربيع، رغم أن الصيف على أشده؛ تهرب المواقيت من لهبه، تحتمي بتلك الحيلة، فكثيرا ما يكون العطب دفاعا تعجز عنه أشد حالات الهجوم؛ إنه اختزان لأجنة لما يحن بعد موعد ولادتها، تعلمت كل هذه الحكم من فيض ريق شيخي الذي احتواني زمن التخاريف الأولى، تبعته مثل ظله، كنت يتيما فآواني، وضالا أمسك بيدي حتى إذا فطمت عن الهوى أوصاني: لا تقرب البحر ذا العمق، احترس من الوسواس الخناس، إياك من تلك التي أخرجت أباك من الجنة!

لبست جلبابه، توكأت على عصاه، علقت مسبحته في رقبتي، تمتمت بأوراده، صنت عهده زمنا. حتى إذا ضرب الجفاف جسدي، أوشك صلبي أن يلين لنداوة المشاغبة، كالراعي حول الحمى أوشكت أن ألقى بنفسي في لجة بحره.

ولأن القلب مغلف بإطار من صبابة، حتى إذا ما التقيتها، تحركت نوازع شتى في قلب غض ما عرف الهوى.

لاحت مع الربيع زينة، أغمضت جفني يوما، عجزت فالتجربة ممتعة رغم أنني أعطيته العهد، اختلست نظرة عجلى، سرى الداء في جسدي رعدة، تخلصت من بعض شحوب في وجهي، تفتحت البراعم جواري.

خرجت من ثوبي الذي طواني عمرا، ليتني فعلت هذا من قبل، هذه أحوال متغايرة كما فصول السنة المرهقة جراء الصمت المخيم على عقارب الساعة المصابة بالخرس رغما عنها.

في شرفة نافذة تعلو بيتا يقف الحارس ممسكا بعصاه،يلوح خيالها كما القمر يجلله السحاب غلالة نسجت من الضوء، أوجس مني خيفة، طوح بعصاه، يضرب في غير هوادة، يقرأ وجهي، منذ زمن يتبعني، عرف السر المطوي داخلي؛ هارب من قبضة وليه ذي العمامة الخضراء، يتبع هواه آونة ويبكي على خطيئته ليله، يهرول صبابة، يذرف دموع الوجد أوراد الصباح ودعاء السحر.

هربت منه لما خفته، أشعلت في ثيابي القديمة نيرانا شبت لا تبقي على شيء، يهزأ بي الشيخ، يرسل طيفه في أحلامي، تصيح بي نداهة السحر: دع عن جفنيك الوسن، طارت الوساوس في ردهات ممر يفضي إلى عمري المكتسي بالانتظار.

سرى خياله في شرياني وهج امرأة كنت رسمت لها صورة أودعتها سفر الماضي المشاغب، تبعتها- مثل النيل وقد اندفع عاشقا- ألقت بجسدها المتماوج فتنة أعادت إلي وهم العمر المصاب بالبرودة.

كانت طيفا أرسله، إنه يعبث حيث تحلو في المنى ساعة الصفو، النجم الأبيض يشاغلني، تتحرك الأرض رقصا، تبرز على الحائط شجرة الخلد، شعرها يتهدل كما الصفاف أطلق أوراقه للريح تغازله.

انسابت من فمي كلمات الطرب، تمايلت رقصا، جاء الشيخ إلي، عانقني فأجهشت بالبكاء، مسح على صدري، نسيت صبابتي، عاهدته ألا أقرب الهوى، انكشف الغطاء الذي ران على قلبي زمنا.

طهرت ثوبي، قدمت بين يديه حاجتي، أشار إلى تلك الفتاة ذات الخد الأحمر، أوصى بي الحارس؛ أن يدعني أطرق الباب، وهبني عقدا وجلبابا وقلما، بعض ماء مبارك من زمزم” إنه لما شرب له”.

غفوت فرأيتها، وقد تمثلت لي بشرا سويا، أعطتني ورقة خضراء، سمكة بذيل به حناء، انتبهت فالليل داج.

Exit mobile version