الخطر الحقيقي على «الفصحى» في انصراف أبنائها عنها

 

هناك باحثون وعلماء وأدباء ولغويون لهم إسهاماتهم العظيمة في الارتقاء باللغة والحفاظ على الهوية 

الصراع بين الثقافات أمر حتمي ومشكلتنا التغني بالماضي وعدم محاولتنا تأسيس نهضة علمية حقيقية

«اليونسكو» تحِّذر من خطورة وضع اللغة العربية وهو أمر مقلق 

وضع ميثاق شرف ملزم للمذيعين والكتَّاب بالتحدث بالعربية بشكل صحيح 

دور المجامع اللغوية غير مؤثر رغم جهودها لكن الزمن والتطور أسرع منها 

كثير من مصطلحات الطب والهندسة والزراعة والحاسوب تأتينا من الخارج ويصعب ملاحقتها بصورة آنية 

التجربة السورية في التعريب عليها ملاحظات من الناحية التقنية للطبيب ومواكبته للمستجدات 

تحبيب الناشئة في اللغة أمر مهم للغاية ويجب أن تتضافر الجهود لتحقيقه

 

قال الناقد الأدبي د. وجيه يعقوب السيد، أستاذ النقد الأدبي بجامعة عين شمس بمصر والأستاذ المعار بجامعة الكويت: إن الصراع بين الثقافات والهويات أمر حتمي منذ القدم، ولكن المسؤول الأول عما نحن فيه هو نحن ومناهجنا العقيمة وتساهلنا وخلطنا بين الأمور الإنسانية والأمور العلمية والمنهجية، ودعا يعقوب، في حواره مع «المجتمع»، قادة الدول والإعلاميين والكتَّاب إلى أن يتبنوا اللغة العربية في حواراتهم.

رأى أستاذ النقد الأدبي، في هذا الحوار الذي تطرق إلى عدة قضايا تخص اللغة مثل اللغة والهوية والمجامع اللغوية وقضية تعريب العلوم والشعر الحديث واللغة والحاسوب، أن اللهجات لا تمثل خطراً كبيراً على الفصحى، وعملياً لا يمكن وقفها، وإنما يمكن تقريبها من الفصحى عن طريق الفن والإعلام وغير ذلك.

 

* بداية، هل تتفقون مع د. محمد محمد حسين، يرحمه الله، في مقولته التي صارت عنواناً لكتابه «حصوننا مهددة من الداخل»؟

 – د. محمد حسين، يرحمه الله، كان من الأكاديميين المنتمين الكبار لأمته مثله مثل أ. أنور الجندي، ود. هدارة وغيرهما، وهو لا يبالغ في ذلك؛ فحقاً حصوننا كانت مهددة وقت أن نوه لذلك، واليوم حصوننا ضعفت واستكانت وضعفت جداً وتلقت الضربات باستكانة غريبة، ولعل واقع الأمة والبحث العلمي يثبت صحة استشرافه للمستقبل؛ إذ تجد الضعف والانهيار في مناحٍ كثيرة، ومع ذلك لا نفقد الأمل في تصحيح الأوضاع وعودتها إلى مسارها الصحيح، فهناك باحثون وعلماء وأدباء ولغويون لهم إسهاماتهم العظيمة في الارتقاء باللغة والحفاظ على الهوية.

 

* هل استطاع الآخر أن يفرض لغته وثقافته علينا، ومن ثم جعلنا ندور في فلكه؟

 – لم يستطع الآخر فرض لغته، ولكنه أثر تأثيراً سلبياً كبيراً على جوانب كثيرة، وأنا لا أعزو ما نحن فيه إلى الغرب؛ فالصراع بين الثقافات والهويات أمر حتمي منذ القدم، ولكن المسؤول الأول عما نحن فيه هو نحن ومناهجنا العقيمة وتساهلنا وخلطنا بين الأمور الإنسانية والعلمية والمنهجية.

وللأسف نحن نعيش على التغني بالماضي أكثر مما نحاول تأسيس نهضة علمية حقيقية؛ فيجب أن تكون اللغة حاضرة بقوة في المسائل الاجتماعية والسياسية والدينية وليس فقط في قاعات الدراسة وداخل الأروقة، ويجب أن ينشغل المعنيون بأمر اللغة بتبسيطها وتقريبها من الناس بطرق مختلفة وجديدة، أما الاستعمار والآخر فعلينا أن نتخلص من هذه العقدة.

 

* لنكن صادقين مع أنفسنا؛ هل ينحصر مد اللغة العربية في العالم؟

– هناك تحذيرات من «اليونسكو» من خطورة وضع اللغة العربية، وهناك ملاحظات كثيرة من خلال التجارب والاحتكاك بالطلاب في معظم الأقطار العربية تشير إلى تفشي الضعف واللحن والاستخفاف بأمر اللغة، هذا واقع مؤلم حقاً ومحبط أحياناً.

 

* اللغة انتماء وهوية، كيف نفعّل هذا الشعار في مؤسساتنا التربوية والإعلامية؟

 – شخصياً أرى أن هذا يتحقق من خلال دوائر عدة؛ على رأسها الدول والقادة بأن يتبنوا اللغة العربية في حواراتهم وفي كل المؤسسات، ومن خلال تعميم دراسة بعض المقررات لطلاب الجامعات كلها على أن تكون بصورة مقبولة ومحببة للطلاب، وأيضاً من خلال الإعلام المسموع والمقروء، ويجب أن يكون هناك ميثاق شرف ملزم للمذيعين والكتَّاب بالتحدث باللغة العربية بشكل صحيح، وكذلك على المعلمين لمادة اللغة العربية أن يتحدثوا باللغة الفصحى البسيطة والسهلة دون تقعر أو تعقيد؛ فهناك دوائر كثيرة يناط بها القيام بهذا الدور بلا شك.

 

* كيف تقيّمون دور المجامع اللغوية العربية؟

 – دور المجامع اللغوية في الحقيقة -وقد لا يعجب كلامي الكثيرين- لا أراه مؤثراً، ولعلهم لا يُسألون عن ذلك، فالناس منصرفة عن الأعمال الجادة، وهم يقومون بدورهم في بحث القضايا اللغوية وعمل المعاجم لكن الزمن والتطور أسرع منهم.

على أي حال، هم يحتاجون إلى الاستعانة بالشباب والشيوخ الأكفاء الراسخين، وتحديد أولوياتهم وما يحتاجه المجتمع بصورة عميقة.

وهنا أتساءل: لماذا لم يصدر «المعجم الكبير» حتى الآن، مع العلم أن هناك أفراداً قدموا معاجم وموسوعات ودراسات لم تقدمها لجان المجمع؟

أرجو أن يقترب العلماء والشيوخ أكثر إلى الناس، ويحرصوا على تقديم اللغة لهم وتقريبها ومراعاة التطور وأساليب العصر.

 

* هل نحن بحاجة إلى تطوير مناهجنا ومقرراتنا اللغوية؟

 – طبعاً، نحن بحاجة إلى ذلك، فهناك تياران رئيسان؛ تيار تغريبي، وتيار أصولي وتقليدي وماضوي، وكلاهما مضر.

نحتاج إلى الارتكاز على أسس ومعايير وضوابط واضحة، لا يستغرقنا الماضي ولا نولي وجوهنا قبل الغرب كما كان يرى طه حسين، يرحمه الله، في كتابه عن الثقافة المصرية، هذه معادلة صعبة لكنها ضرورية لكي ننهض ونتقدم.

وهناك أسئلة تطرح نفسها في هذا السياق: أين التأليف الجماعي؟ أين القوانين التي تتعامل مع السرقات العلمية؟ أين اللجان العلمية التي ترقي الأساتذة بشفافية ووفق قواعد؟ أين تقييم المناهج والمقررات الجامعية من خلال لجان علمية جادة؟ تساؤلات كثيرة نحتاج إلى الإجابة عنها ووضع تصورات لها بشجاعة ومصارحة.

هناك خلل حقيقي في بنية التعليم والمؤسسات، ولا أريد الاستشهاد بحالات عايشتها ورأيتها، وهي ليست فردية ولا قليلة.

 

* ألا ترون أن في إحياء اللهجات والنعرات الطائفية خطراً على اللغة العربية؟

– بالنسبة للهجات لا أرى فيها خطراً كبيراً على الفصحى، وهي بالمناسبة قديمة، وللجاحظ نص يقول فيه: «حكاية كلام الأعراب بالإعراب تفسد المعنى»، وكثير من اللهجات تعود في أصولها إلى اللغة الأم، وعملياً لا يمكن وقفها وإنما يمكن تقريبها من الفصحى عن طريق الفن مثلاً والإعلام وغير ذلك.

الخطر الحقيقي على الفصحى يكمن في انصراف الشباب عنها ونفورهم منها، وفي إصرار المدرسين والباحثين على اتباع الطريق نفسه وتقليد اللاحق للسابق.

شخصياً أقول لطلابي: لا نتعلم اللغة العربية لكي نتحدث بها في الأسواق وفي الشوارع، ولكن لنتمكن من قراءة تراثنا وفهمه واستيعابه، والتحدث بلغة سليمة في المؤتمرات العلمية والندوات والأمسيات الأدبية، وبالطبع إذا كان الرجل العادي يعذر حين يتحدث بالعامية، فإن معلم اللغة العربية يجب ألا يلقي دروسه أبداً باللهجة المحلية مهما كان السبب.

 

* هل توقف مشروع تعريب العلوم؟

– العلماء والمختصون مختلفون في هذا الأمر؛ فمنهم من يرى ضرورة تدريس العلوم باللغة العربية، ومنهم من يرى العكس، ولكل حججه ووجهة نظره، قابلت د. محمد صبور، ود. عماد فضلي، يرحمهما الله، وهما أستاذان مرموقان في كلية الطب، وكانا من أنصار وضرورة التعريب، والأمر محير في الحقيقة؛ لأن البحث في تعريب العلوم لا يدلي فيه أهل اللغة وحدهم بدلوهم، وإنما يجب أن يشاركهم أهل التخصص والنظر في حججهم ومحاولة الوصول لحلول عملية وواقعية.

ورأيي الشخصي أن الكثير من المصطلحات في الطب والهندسة والزراعة والحاسوب تأتينا من الخارج، ويصعب ملاحقتها بصورة آنية، والحل أن يكون لنا إسهام ودور بدلاً من الاعتماد على الآخر، عندئذ سنفرض لغتنا ومنطقنا ونعطي ونستقبل، حتى التجربة السورية في التعريب عليها ملاحظات من الناحية التقنية للطبيب ومواكبته للمستجدات والتطورات وغير ذلك.

 

* بصفتكم ناقداً أدبياً، كيف تنظرون إلى الإنتاج العربي في مجال الإبداع؟

– الإبداع العربي يصعب تقييمه والحكم عليه في أسطر قليلة، الأمر يحتاج إلى معالجة أعمق وأطول، فهناك الشعر والقصة القصيرة والرواية والمسرحية وحتى الأدب الشعبي، وفي مجال الرواية، على سبيل المثال، هناك تطور ملحوظ هيأ له الرواد من أمثال د. هيكل، ويحيى حقي، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وعلي أحمد باكثير، ونجيب الكيلاني.. وغيرهم، كتبوا عن الواقع بلغة جميلة أظن أنها تركت أثراً في الأجيال المتعاقبة ووصلت إلى مستوى طيب.

أما الشعر المعاصر، فأرى أن القليل منه جيد بسبب موجة التغريب والموقف السلبي من التراث وغير ذلك من الأمور التي لا يجهلها الدارس، وأذكر هنا مقولة د. علي عشري زايد، يرحمه الله، تعليقاً على مثل هذا النوع من الشعر حيث يقول: «إذا كان هذا شعراً، فكلام العرب باطل!»، كما أذكر ما قاله لي د. حسين مجيب المصري، وكان يجيد ثماني لغات، وألَّف نحو ثمانين كتاباً حول الأدب الإسلامي المقارن، إذ قال لي بالحرف: «إن الذين يكتبون الشعر الحر لا يفهمونه!»، ولا شك أن هناك شعراء يبذلون محاولات لا بأس بها من أجل عودة الشعر إلى مساره.

 

* ما السبيل إلى تحبيب الناشئة في اللغة؟ وكيف تنمو لديهم الذائقة الأدبية؟

– تحبيب الناشئة في اللغة أمر مهم للغاية، ويجب أن تتضافر الجهود لتحقيق هذا الهدف بدءاً من وضع مناهج جيدة وطباعتها بشكل جذاب ثم الاهتمام بأدب الطفل، وعندي تجربة في هذا المجال تعلمت من خلالها أنه بإمكانك أن تقدم أشياء مهمة وجادة بأسلوب بسيط وسهل وعلمي في الوقت ذاته، يجب كذلك أن تقوم الأسرة بدور كبير في هذا الأمر والمدرسة والكتاتيب ووسائل الإعلام.

 

* هناك بعض المشاريع الرائدة لمعالجة اللغة العربية آلياً، كيف تقيّمون هذه التجربة؟

 – بالنسبة للغة والحاسوب؛ فإن أبرز الأعمال التي استفادت من هذه التقنيات تجربة المرحوم د. أحمد مختار عمر في معجم اللغة العربية المعاصرة تنسيقاً واستقصاء وجمعاً واستدراكاً، ولا شك أن أي وسيلة تخدم اللغة يجب استخدامها وتوظيفها بشكل جيد.

يوجد الآن معاجم كثيرة ومتنوعة على الشبكة، وهي تساعد في البحث عن معاني الكلمات بسهولة.

 

د. وجيه يعقوب السيد في سطور:
– أستاذ النقد الأدبي بكلية الألسن جامعة عين شمس، والأستاذ المعار بجامعة الكويت.
– له العديد من الدراسات والأبحاث، منها: مناهج النقد الروائي، من قضايا الشعر الجاهلي، الرواية والتراث العربي، سرديات الرواية العربية، صورة الذات والآخر في السيرة الذاتية للدكتور عبد الرحمن بدوي، خصوصية السرد النسوي، عناصر الحداثة في الرواية العربية، رواية أولاد حارتنا بين التفسير الديني والتحليل الفني، وغير ذلك من الدراسات.
– أجرى العديد من اللقاءات التلفزيونية والإذاعية عن قضايا اللغة والأدب والتراث وأدب الأطفال.
– له العديد من القصص للأطفال، منها: قصة آية في 160 جزءاً، ونوادر أشعب في 50 جزءاً، أشبال الإسلام في 26 جزءاً، نساء مسلمات في 30 جزءاً، أسماء الله الحسنى في 30 جزءاً، مكارم الأخلاق في 6 أجزاء.
– كتب في العديد من مجلات الأطفال، منها: «ماجد» الإماراتية، و«باسم» السعودية، و«بلبل» المصرية.

* باحث لغوي بجامعة القاهرة

 

Exit mobile version