خَلَوات القرآن.. منارات دينية في السودان (فيديو)

وهب الصبي السوداني محمد خير (15 عامًا) 6 سنوات من عمره في خلوة والده لتحفيظ القرآن الكريم، وهي تشبه “الكتاتيب” في بلدان عربية، لتحقيق حلم حياته بأن يصبح “عالماً في الدين”.

بعيداً عن ما يفعله أقارنه في هذه السن الصغيرة، قضى الصبي السنوات الست بين جدران الخلوة، يصبح ويمسى على كتاب الله، حتى أكمل ما أرداه، وما رغب فيه والده وخطط له، وهو حفظ القرآن الكريم كاملاً.

الآن، أصبح محمد مرجعًا ومصححًا لقراءات الطلاب الجدد في الخلوة، كما أنه يؤم المصلين في صلاة التراويح كل عام، بقراءة جزء كامل، وأحيانًا جُزأين ونصف جزء من القرآن.

رحلة يقول عنها محمد لـ”الأناضول”: “بحمد الله أكملت حفظ القرآن الكريم في ست سنوات، والتحقت بالصف السادس بمرحلة (التعليم) الأساس، وكان ترتيبي الأول على زملائي”.

وأضاف: “حاليًا جلست (أدرس) لامتحانات الصف الثامن بمرحلة الأساس، للعبور إلى المرحلة الثانوية، وسأحرز المرتبة الأولى على زملائي بإذن الله”.

مئات السنين

مثل بقية دول المنطقة، فإن خَلَوات تدريس القرآن الكريم في السودان هي من أكبر المنارات الدينية، التي ساهمت في نشر الدين الإسلامي وتحفظ القرآن وتجويده، إضافة إلى تعليم مبادئ القراءة والكتابة.

ونقلت وسائل إعلام محلية، السبت الماضي، عن وزير الإرشاد السوداني، أبو بكر عثمان، قوله: إنه يوجد في السودان أكثر من 30 ألف مسجد، و38 ألف خلوة.

ويعود تاريخ الخلوة في السودان إلى مئات السنين، وقد توسعت في عهد حكم الشيخ عجيب المانجلك (1570 -1611)، وحينها بنيت الخَلَوات كبيوت ملحقة بالمساجد.

عادة تبدأ الرحلة في الخلوة بتدريس الحروف نُطقًا وخطًا، بالوسائل التقليدية، المتمثلة في اللوح المصنوع من الخشب، والمداد الأسود (الحبر)، والقلم المصنوع من نبات البوص.

وقدمت الخَلَوات خدمات جليلة في نشر التعليم ومحو الأمية الأبجدية، بجانب دورها الكبير في الانصهار القومي، خاصة وأن الطلاب يتوافدون إلى الخلوة من مختلف أنحاء السودان ومن كافة القبائل لحفظ القرآن الكريم.

في الماضي كانت الخَلَوات قاصرة على تحفيظ القرآن فقط، لكنها توسعت في علوم الفقه والحديث والتفسير، وصار بناؤها ينقسم إلى قسمين؛ الأول لسكن الطلاب ومعاشهم، والثاني لتلاوة وحفظ القرآن وتلقي علوم الفقه المختلفة.

وللخلوة أسماء متعددة فهي “القرآنية” أو “الجامعة” أو “المسيد”، وإن كان اسم الخلوة هو الأكثر استخدامًا، في حين تُطلق كلمة “المسيد” على المسجد والخلوة، ودار الضيافة، وسكن الطلبة، ودار المرضى، وديوان الاجتماعيات.

طريقة التعليم

يقوم نظام التحفيظ في الخلوة على القراءات السبع المتواترة برواياتها المختلفة، لكن الأكثر انتشاراً في الخَلَوات السودانية هي روايات: “أبي عمر الدوربي”، و”حفص عن عاصم”، و”ورش عن نافع”، والأخيرة يعتقد عدد غير قليل من شيوخ الخَلاَوت أنها رواية أهل الجنة؛ لأن أهل المدينة المنورة يقرؤون بها.

وتأثر أهل السودان في الأخذ بهذه القراءة بشيوخ المغرب، الذين وفدوا إلى السودان في القرن التاسع عشر، ومن مفرداتها ترقيق الراء وتغليظ اللام.

ويأتي علم التجويد على رأس العلوم التي يتلقاها طلاب الخَلَوات بقواعده وأسسه وتعاليمه، وهي إخراج كل حرف من مخرجه وإعطاؤه حقه دون تكلف أو تعسف، وحفظ لسان القارئ لكتاب الله من اللحن في لفظه.

الخلوة تستخدم الطريقة الكلية في التعليم، وذلك ببسط الكل قبل تحليل أجزائه وبعد الإدراك والإحاطة بالمجمل يتم شرح الأجزاء، وهذا يفسر حفظ القرآن الكريم دون شرحه ومعرفة أحكامه في الخَلَوات.

يوم الخلوة

بالنسبة إلى المسؤول في مسجد وخلوة “الطريقة القادرية” بمدينة أمدرمان، محمد الخير إبراهيم، فإن “الخَلَوات في السودان قديمة وتجاربها متعددة”.

وتعد الطريقة القادرية، المنسوبة إلى عبدالقادر الجيلاني (470هـ – 561هـ)، من أكبر الطرق الصوفية انتشاراً في السودان.

ويضيف إبراهيم لـ”الأناضول”: “نمارس الطريقة التقليدية في تعليم القرآن الكريم للطلاب، وخرجنا حوالي 70 طالباً خلال عامين”.

ويتابع: “لا نلجأ إلى الطريقة القديمة بضرب الطلاب بالسياط كما كان في السابق، بل نمارس أساليب أخرى، إنفاذًا للمقولة الرائجة (من أمن العقوبة ساء الأدب) لضبط الطلاب من ممارسة الفوضى”.

وحول طريقة التعلم في الخلوة يوضح إبراهيم أن “الطالب يكتب المقرر اليومي على لوح من الخشب، ثم تأتي حصة بعد صلاة الظهر لتصحيح القراءة، ثم يخلد الجميع إلى النوم”.

ويتابع أن “الفترة بين صلاتي العصر والمغرب تخصص للحفظ والمراجعة، وبعد صلاة المغرب نشرع في حصة التسميع، وعقب صلاة العشاء نبدأ حصة مراجعة الأجزاء التي حفظها الطلاب”.

وحول رأيه بشأن المنافسة التي تواجهها الخَلَوات التقليدية من المدارس الحديثة لتحفيظ القرآن، يرى أن “التجارب الجديدة فشلت رغم المحاولات المتكررة، وما زال آباء الأطفال يتمسكون بالخَلَوات التقليدية لجودتها وتاريخها الناصع”.

مركز الحراك الاجتماعي

من شتى أرجاء السودان يقصد الطلاب الخَلاوات، ومن بين هؤلاء الهادي إبراهيم (12 عامًا)، ويقول للأناضول: “قدمت من دارفور (غرب) إلى مدينة أمدرمان، منذ عامين ونصف، لأدرس في الخلوة وأحفظ القرآن الكريم”.

ويردف قائلاً: “واجهتني صعوبة شديدة في الحفظ، لكنني أحفظ حاليًا سبعة أجزاء.. سأعود إلى أهلي في إجازة قصيرة، ثم أعود إلى الخلوة لمواصلة الدراسة، واستكمال حفظ القرآن كاملًا”.

فيما يقول جابر أحمد آدم (13 عامًا)، لـ”الأناضول”: “أدرس في الخلوة منذ شهرين.. حفظت سورة البروج، وأخطط لحفظ القرآن الكريم بالكامل.. سعيد بدراستي في الخلوة”.

ويعتبر الكاتب الصحفي المتخصص في الشؤون الدينية، عبد الله الشيخ، أن “الخلوة في السودان تُعتبر مركز الحراك الاجتماعي، وتبدأ منها دورة الحياة، ولا يقتصر دورها على حفظ القرآن فقط، بل تشمل الفقه والسيرة النبوية”.

ويضيف الشيخ، في حديث لـ”الأناضول”، أن “الخلوة تستقبل ذوي الحاجات، وتسعى إلى حل مشاكلهم عبر التطبيب بالقرآن الذي يمارسه الشيخ، فضلًا عن الإطعام”.

Exit mobile version