صراع أجيال أم اختلاف في الرؤى؟!

الآباء والقدوات يشتركون جميعًا في أنهم منزهون عن الأخطاء -في نظر الأطفال طبعًا- ولا يقولون ولا يفعلون إلا صوابًا، وعندما يكبر الطفل ليجد والديه كأي بشر آخرين يخطئون ويصيبون، وأنهم ليسوا آلهة منزهة عن الخطأ، أو أنبياء يُوحى إليهم، فإنه لا بدّ يُصدم بالحقيقة، وربما يشعر بشيء من الإحباط قليل أو كثير، لكنه مع الوقت لا يلبث يكتشف أنَّ لا أحد معصوم، وأن والديه على حبهما ورعايتهما كأي بشر يختلفون فقط في إخراج نتاج منظومتهم التربوية والأخلاقية.. حينها تتحول قناعاته وأفكاره إلى مناط جديد، ويبدأ الصراع سواء اختار هذا الابن -الذي لم يعد طفلًا بالتأكيد- أن يجعله صراعًا خارجيًّا معلنًا بينه وبين والديه -أو أحدهما- ما داما غير معصومين، أو اكتفى بنفسه في هذا الصراع يُقيّم ويدقق وينتقد ويعترض ويرضى، وكل ذلك دون أن يُشعر والديه بشيء مما يجول في خاطره.. وفي هذه الحالة تبرز مشكلة كبيرة تفوق مشكلة الصراع المحتوم، إذ وقتها يُصمم هذا الابن أن يستقل بحياته، فإن لم يكن ماديًّا أو بشكل مطلق، فمعنويًّا على أقل تقدير، وحينها يفقد عنصر التوجيه قيمته وفاعليته، ويكفر الطفل بكل ما جاء به والداه، فيفعل ما يؤمن به صوابًا في الخفاء دون علمهما، وهما يشيدان بطاعته ومثاليته، ولا يتنبهان للكارثة التي بدأت تتشكل في وعي ابنهم..!

وقد تكون إحدى أسباب اختيار الأبناء لنهج الصراع – داخلي مكتوم أو خارجي معلن- هي طريقة التوجيه والتربية في مرحلة الطفولة، غير أننا نشهد في بعض الأسر كلا نوعي الصراع، بالاحتفاظ بالمنظومة التربوية نفسها مع بعض التعديلات طبعًا، فليس الطفل الأول كالثاني كالأخير.

وتظهر المشكلة في عدم تقبل الأهل للصراع فضلًا عن احتوائه، والسعي الحثيث من قبل بعضهم لتوجيه اللوم، وإفقاد الأبناء ثقتهم في أنفسهم حتى لا يجرؤا مرة أخرى على معارضة أهليهم -الأكثر خبرة ودراية بالأمور- فيما يرتؤونه صوابًا، فالأهل وحدهم لهم حق التشريع، ولا يحق لأحد مجادلتهم فيما يفعلون.. إلى جانب عناد الابن الذي لم يقتنع بمنطق والديه -لأنهما قد أخذا الأمر على أنه تحدٍّ شخصيّ- وإحساسه بأنه قد نضج وكبر ما يكفي لتحمل تبعات خياراته ونتائج أفعاله، مع مقارنة نفسه ببقية زملائه، خاصة إن اتسعت الفجوة في الطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها.

وهناك مشكلة أخرى، إذ لا يتوقع بعض الأهل حدوث مثل هذا الصراع وهم الذين يكدون ليقدموا لأبنائهم أفضل ما لديهم، فتتخذ المشكلة بُعدًا آخر، فهم لا يتوقعون حدوث الصراع أصلًا، فكيف يستطيعون حله أو مواجهته؟! فتكون مشكلتهم مع ذواتهم أنهم قد فشلوا في تربية أبنائهم، وقد خاب أملهم كثيرًا، وبذلك تُتاح الفرصة للأبناء بشكل أو بآخر أن يقودوا دفة الصراع لأنهم قد فازوا به، واعترف أهلهم بفشل أساليبهم التربوية سواءً بشكل معلن أو غير معلن، ومن جديد يفقد عنصر التوجيه قيمته، ويكفر الابن بما جاء به والداه، على الأقل من الناحية التربوية وحديثهم الذي ما عاد يناسب الجيل من وجهة نظره.

وفئة ثالثة من الأهالي تظن أنها قادرة على احتواء الصراع، إذ يرونه أمرًا محتوم الحدوث، ولكنهم كثيرًا ما يخطئون في أساليب احتوائهم للأمور، ويظنون أن الأمر قد استتب عند نقطة معينة، ولا يدركون أن أبنائهم يعانون اضطرابات نفسية عصيبة بسبب طريقة معالجتهم للمواقف.. ومع اعتراض كثير من الأهالي على اصطحاب أبنائهم لأطباء نفسيين -رغم تغير نظرة المجتمع لهؤلاء الأطباء، فإنهم يظلون مؤمنين بهم وبجدواهم ما لم يمس وجودهم عائلاتهم في شيء- حينها يتفاقم الأمر ليُنتَجَ جيل مضطرب النفس مذبذب القيم، أو لنقل جيل أصبح أي كبير من وجهة نظره بلا جدوى، ولا يفقه شيئًا.

ليست لدي الخبرة الكافية لأطرح حلولًا فعلية لهذه المشكلة، لكنني أعترض على من يقتصر هذه المعضلة على أنها صراع بين الأجيال، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك اختلافًا بين الأجيال، ولكنه لم يصل إلى مرحلة الصراع – في إطار حديثنا عن العلاقة بين الآباء والأبناء- بعد، يتعلل الأبناء والآباء جميعهم باختلاف كل جيل عن سابقه، ولذا لا تستطيع أي من الفئتين الوصول إلى النقاش، فضلًا عن تقريب وجهات النظر، وإقناع أي طرف منهما بجدوى إحداها.. ولكن كل الأجيال تشترك في كونهم بشرًا لهم متطلبات واحدة، إن توافرت ستُحل هذه النقطة إلى الأبد، لكننا عوضًا عن ذلك اخترعنا مصطلحات من قبيل (صراع الأجيال) لنبرر فشلنا، ووجهات نظرنا الغريبة على المجتمع، وعصياننا أو رفضنا لأمور هي في حقيقة الأمر حق أو واجب بالأساس، وحمّلنا كل مشاكل التربية هذه النقطة.. مقتنعة بوجود نوع من صراع الأجيال في مجتمعاتنا، ولكنها تنحصر فيما أظن في النطاقات الثقافية، والصحية، وربما السياسية أيضًا، وليس في حاجات الآباء والأبناء وأولوياتهم الطبيعية.

وللآباء أقول: حاولوا أن تفهموا أبناءكم، وأن تصادقوهم، افهموا احتياجاتهم ومتطلباتهم في حدود بيئتهم الاجتماعية، وتغيرات جيلهم. قوّموهم في غير كثير ترهيب حتى لا تفقدوهم للأبد، ولا تتجنبوهم وتتركوهم لأبناء جيلهم كلية فتفقدونهم أيضًا.. وأهم نقطة هي أن تفهموهم، وتتفهموا احتياجاتهم في كل مرحلة عمرية، لأن هذا سيسهل الأمور كثيرًا.. لا تُعقّدوا بعض الأمور لأنكم غير قادرين على تخيل أنهم قد كبروا، بداعي أنكم عندما كنتم في مثل سنهم لم تحلموا مجرد حلم بما يطالبونكم به، لأنكم كنتم صغارًا! ربما ليس هناك صراع بين أجيال، ولكنه فرق توقيت كما أحب أن أسميه، فربما نضج جيل قبل جيل، فلا تصنعوا عداوات مع أبنائكم!

وللأبناء أقول: أعجبتني مقولة أحد أبطال رواية لغيوم ميسو، لطفلة في الخامسة عشرة من عمرها: “نحن كلنا، حين نكون صغارًا، نعتقد أن آباءنا لا يتّصفون إلّا بالخصال الجميلة، لذلك نحبهم الحب الأعمى، وحين نصير يافعين، تنتابنا مشاعر الكراهية تجاههم لأننا نكتشف فجأة أنهم ليسوا بصورة الكمال التي ترسّبت في تصوّرنا عنهم، ممّا يجعلهم في نظرنا سببًا في إحباطنا، لكن في فترة لاحقة ننتهي إلى تقبل نواقصهم حين نكتشف بدورنا نواقصنا، وبهذا نعثر على دليل رشدنا”، لكم أن تحلموا، وتعترضوا، وتنتقدوا، ولكن في حدود الأدب، وباحتفاظكم بودكم ومحبتكم لأهليكم، وترك مساحة لتقبل التوجيه، ولا توصلوا الأمور إلى درجة التحدي، فإنكم بضعة منهم يؤذيهم ما يؤذيكم وإن لم تشعروا!

Exit mobile version