نحن.. وأولادنا.. في محطة الصيام

 

– تربية الأولاد على تعظيم حرمات الله وطلب رضاه باغتنام أوقات الطاعات

– تدريب الأولاد على الصيام منذ الصغر حتى يكونوا صبورين قويي الإرادة

– من أخطائنا مع الأولاد في رمضان الاهتمام بصيامهم والغفلة عن تدريبهم على التأدب بأخلاق الصيام

إنها المحطة التي تتزود فيها الروح حتى تسمو وتقوى وتشتد، بينما يتخلى فيها الجسد عما يثقله ويشده إلى الطين! محطة يجب ويتحتم على المسافر أن يمر عليها مرة كل عام فيرتاح فيها من ثقل الأوزار، ويضع عن كاهله إصرها وأغلالها، يتشبه فيها بالملائكة الأبرار، فيرقى بنفسه إلى حيث يريدها الله من الصفاء والنقاء والتخلي والتحلي، فيا لها من محطة! ويا لحظ من يصل إليها ويقيل فيها!

إذا نظرت إلى هذا المسافر الراكب إليها وجدته لها مشتاقاً، رافعاً كفيه يدعو خالقه ومولاه أن يبلغه إياها، فإذا ما اقتربت التباشير بقرب قدومها، وسلامة الوصول لها، بدأ في استعداداته ليدخلها وقد تهيأ لأن يستقبلها وتستقبله، فيحنُّ إليها وتحنُّ له، قد عقد عهده مع الله لئن أبلغه إياها ليكونن فيها من الذاكرين الشاكرين، ولئن دخلها ليصبحن من العاملين الصابرين، فأنعِم بها من محطة، وأكرِم به من مسافر!

صوم رمضان:

إن الله تعالى قد فرض علينا الصوم، وجعله فريضة سنوية، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {183}) (البقرة)، وجعله النبي صلى الله عليه وسلم داخلاً في الإيمان، فقال: «هل تدرون ما الإيمانُ باللهِ؟ شهادةُ أن لا إلَه إلا اللهُ، وإقامُ الصلاةِ، وإيتاءُ الزكاةِ، وصومُ رمضانَ» (رواه البخاري)، كما أنه ركن عظيم من أركان الإسلام فلا يتم بنيان إسلام العبد دون أن يرتكز ويثبت على هذا الركن القوي المتين، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «بُنِي الإسلامُ على خمسٍ: شَهادةِ أن لا إلهَ إلا اللهُ وأنَّ محمداً رسولُ اللهِ، وإقامِ الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، والحجِّ، وصومِ رمضانَ» (رواه البخاري)، وقوله: «بُنِيَ الإسلامُ على خمسةٍ: على أن يُوَحَّدَ اللهُ، وإقامِ الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، وصيامِ رمضانَ، والحجِّ» (رواه مسلم).

استقبال رمضان واستضافته:

ورمضان شهر الصيام يزورنا مرة واحدة في العام، ولمدة شهر، لذا فهو بمثابة الضيف العزيز الذي يهل علينا ثم لا يلبث أن يتركنا ويرحل، لكن الضيافة منذ القدم لها أصول وقواعد وآداب يعرفها الكرام، تبدأ قبل حلول الزائر وتزداد حين يقدم، ثم تنتهي بحسن الوعد وصدق الوفاء على استمرار ذكرى الصحبة والضيافة في وجدان المحبين الذين أحسنوا استقباله وضيفوه، والكرم من شيم الكرام، ومع أن الضيف له حقوق الضيافة والإكرام إلا أن زائرنا العظيم لا يأتينا فارغ الكفين أو صفر اليدين، بل تأتي بمقدمه البركات وتعم الخيرات ويسود الأمن والأمان حين تُسلسل الأعداء من شياطين الجان، لتكون ضيافة هادئة هانئة كلها سكينة ورحمة وطمأنينة، فيها راحة للأجساد وإشراقات للروح ونور للقلوب، بل فيها مغفرة وعتق من النار.

استعدادات الضيافة:

لذا فإننا إن أردنا ضيافة سعيدة؛ فإن علينا أن نبدأ مراسم الاستقبال اللائق بسيد الشهور، واتخاذ الاستعدادات الجادّة لاستقبال ضيفنا العزيز رمضان، وهي كثيرة؛ منها التوبة النصوح من الذنوب والمعاصي صغيرها وكبيرها، وتصحيح العقيدة من أي شائبة تشوبها، ومحاسبة النفس وتزكيتها، وترويضها على حسن العمل وإخلاص النية، ومنها تطهير القلب من شوائب الكبر والعُجب والشحناء، والخصام والحسد والبغضاء، وكل ما فيه من آفات وأمراض، ومنها تصحيح العبادة بالإخلاص فيها وموافقتها الكتاب والسُّنة، وتحسين العمل وكثرة الذكر وصحبة القرآن وحفظ الوقت، والتقرب إلى الله بحسن معاملة خلقه وعباده، ومساعدة المحتاج منهم، والتخلق بأخلاق الإسلام الراقية من رحمة وتعاون وعفو وصفح، وإحسان ولين جانب، وبر والدين، ورعاية زوج وتربية ولد، وصلة رحم، وإحسان إلى أرملة وكفالة يتيم، وإطعام جائع وكسوة عارٍ، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وكف الأذى عن الناس والإمساك عن الشر، وقبل ذلك وبعده عقد النية على إرضاء الله عز وجل، وحصد أكبر قدر من الحسنات التي يضاعفها الله للمحسنين أضعافاً كثيرة.

نحن.. وأولادنا.. والصيام:

إن من حسن تربية الولد تربيته على تعظيم حرمات الله عز وجل، وطلب رضاه باغتنام أوقات ومواسم الطاعات ومنها رمضان شهر الصيام، فينبغي أن يشعر أولادنا بقدوم هذا الضيف العظيم ويعرفوا مكانته ليُجِلّوه ويقوموا بما ينبغي عليهم فيه، وليس ذلك بشراء الطعام والحلوى فحسب، ولا بتعليق الزينات وشراء الفوانيس والمصابيح كفرحة، بل إن الفرحة الحقيقية يجب أن يراها الولد في أعمال أبيه وأمه من تقوى وورع، وشوق ولهفة للصيام، وبذل وعطاء لذوي الحاجة والفاقة، أن يُعلَّم الولد أنه لا ينبغي له أن ينام شبعان وجاره جائع، وكيف يكظم غيظه ويحلم إذا ما جهل عليه جاهل، أن يعرف الحكمة من الصيام ويُدرَّب على نمو بذرتها في قلبه فلا يرى إلا ما يحبه الله ولا يفضل على طاعته هوى نفسه أو إلحاح صديقه، أو شهوة أو لذة تناديه ببريقها الكاذب وسرابها الخادع.

من حسن تربية الولد في رمضان:

ومن حسن تربية الولد في رمضان تدريبه على الصيام منذ الصغر، حتى يكون صبوراً قوي الإرادة، حازماً مع شهوات نفسه، لا يجيبها في كل صغيرة وكبيرة، فنبدأ معه بالتدريج، فلا ينبغي أن نأمره بالصيام فجأة طوال اليوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، لا سيما حين يكون النهار طويلاً والطقس حاراً، فيجوع جوعاً شديداً يتضرر به بدنه، ويكره معه الطاعة وتذهب لذتها، بل قد يضطر للأكل سراً ويكذب على والديه خوفاً من تأنيب أحدهما أو كليهما له! وإنما نشجعه مرة على ترك حلوى يحبها فيصوم عنها دون غيرها، أو تأجيل وقت لعبه حيناً؛ ليقرأ القرآن معنا ثم يلعب بعد ذلك، وقد يصوم في اليوم التالي إلى صلاة الظهر مثلاً، أو يصوم من العصر إلى وقت الإفطار، وقد يتحمل بعد ذلك فيصوم اليوم كله خاصة في الأيام القصيرة حيث لا يضره الصيام فيها كطفل، ونشجعه ونكافئه.

وهكذا كل حسب عمره وحاله، إلى أن يقوى ويشتد ويبلغ ويكون مكلفاً فيكون الصيام عليه فريضة، وقد صار له محبباً، غير أننا نخطئ خطأ كبيراً حين نهتم بصيامهم الذي يمتنعون فيه عن الطعام والشراب، ونغفل عن تدريبهم على التأدب بأخلاق الصيام وآدابه حال صومهم، لتكون بعد ذلك عادة لهم في غير رمضان وتثمر فيهم خلقاً حسناً وتعاملاً راقياً.

فالبعض يتغاضى عن عصيان ولده الصائم وسوء خلقه وارتفاع صوته وضيقه وضجره فيقول عنه: «إنه صائم»، وكأن الصيام مبرر لسوء الخلق! والبعض الآخر يلهيه طيلة اليوم بالألعاب الإلكترونية والأفلام الكارتونية، فيضيع وقته كله ويتضرر بذلك بدنه! فهذه الألعاب ليست بالتأكيد كاللعبة من العهن التي كانت نساء الصحابة تلهي بها الصغار حال صومهم، وهناك من تترك صغيرها الصائم نائماً طيلة يومه شفقة عليه وتظن ذلك خيراً له! فلا يشعر بلسعة الجوع التي تلين القلب تجاه الجائعين، ويصبح ليله نهاراً ونهاره ليلاً فتضيع عليه الصلاة في وقتها، وينتهي يومه دون أي عمل آخر مفيد له؛ فيعتاد أن الصيام يقترن عادة بالنوم والكسل والركود وعدم العمل.

وهذا كله ليس من حسن التربية، بل الواجب أن نعلمه إذا غضب أن الصائم يترك طعامه وشرابه من أجل إرضاء الله، وكذلك يترك ما يجرح صيامه ليرضى عنه ربه، ألا فلينظر كل منا كيف يربي ولده ليكون عبداً ربانياً محسناً مخلصاً لله.

إن رمضان شهر التربية الربانية على الصبر والرحمة وحسن الخلق وقوة الإرادة وحب الخير والبذل والعطاء والجود والكرم، تربية على حب الله ورسوله وصحبة القرآن الكريم تلاوة وتعلماً وتعليماً، وحفظاً وعملاً واتباعاً، تربية ربانية على أن يكون الله ورسوله أحب إلينا من النفس والمال والأهل والولد، ومن الطعام والشراب والشهوات، تربية على أن نعبد الله كأننا نراه، فمن تأدب وتربى على ذلك في رمضان فقد صامه إيماناً واحتساباً وصار عبداً ربانياً، لا عبداً رمضانياً.

Exit mobile version