رمضان.. والولادة الثانية

يمر الإنسان بولادتين؛ الأولى وقت خروجه من رحم أمه وفي هذه الولادة يشترك مع كثير من الكائنات الحية، والولادة الثانية يوم أن تسطع الحقيقة على روحه ويبزغ فجر الهداية والنور على قلبه فيبدد ظلمات نفسه ويهدم الوثنيات التي شيدتها سنوات البعد عن رحاب ربه، وتمتاز هذه الولادة أن للإنسان أثراً كبيراً بعد توفيق من الله ومدد من غوثه في رسم معالمها ونهجها.

ورمضان هذا الشهر العظيم والزائر اللطيف ذو الظل الخفيف، الحبيب الغائب الذي يأتينا وقد تفطرت قلوبنا شوقاً وبعداً وتشققت أرواحنا ظمأً، رمضان لا أراه إلا واحة في أعمارنا نمرّ به في كل عام خلال مسيرنا في سنوات العمر العجاف فنستظل بأشجاره الباسقة وننيخ في ربوعه رواحلنا بعد مسير أشهر مضت أثقلت كواهلنا وأدمت قلوبنا وتصحرت أرواحنا بعداً واغتراباً وانحرافاً بخطواتنا عن مسارها الصحيح، نجلس نستريح في ظلاله نرتوي من عذوبة مياهه ونغتسل من ينبوعه وقد توحلت أنفسنا في شهوات وشبهات طالما اعترضت مسيرنا على مدى أشهر وأيام خلت.

يشرق علينا رمضان وقد أثقلت الأرواح وأنهكت الأجسام مصائب تحوم حول الأمة بأسرها كما السوار يحيط بمعصم اليد مصائب تُحاك للأمة تحت جنح غفلة أبنائها وشرود عقولهم وتشتت وجهاتهم فتصيب الأمة في عمقها وصميمها، فيطل علينا رمضان الرحمة المهداة ليكون المنحة والمنّة من رب العزة، لننيخ مطايانا ببابه ويراجع كل منا نفسه بما قدم وأخر.

وأذكر في طفولتي دعاء المصلين في التراويح كان يتمركز حول خلاص الأقصى من يهود، واليوم أصبحت بلاد المسلمين كلها الأقصى وتعددت أشكال العدو والمحتل، فما عاد الوقت يسمح لذكر اسم البلد المصاب، فالمصيبة شملت كل الأمة والعدو من جلدتنا أكثر من العدو الدخيل علينا، فتكالبت الهموم على قلوبنا وتزاحمت العبرات في مآقينا على ما حلّ في أوطاننا وأهلينا، وإن كان كل هذا الألم يحيق بنا ويأخذ بتلابيبنا إلا أن هذا الشهر ببركته وفضله ما زال الكوة التي ينبعث الأمل منها أن يكون الميلاد الجديد لكل منا، فيكون بذلك ميلاداً لكل الأمة، ويحضرني هنا سؤال عن المغزى من فريضة الصوم؛ هل الهدف منه الامتناع عن شهوتي البطن والفرج أم أنّ هناك أعظم من ذلك بكثير؟!

وتأتي الإجابة واضحة كما الشمس بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {183}) (البقرة).

والتقوى إنما هي الميلاد الثاني والذي يجب أن يتحقق من فريضة الصيام، فبعد نهاية كل يوم من هذا الشهر الفضيل يجب أن نتخلص من آثامنا وأوزارنا حتى إذا ما اكتمل الشهر اكتملت مرحلة المخاض في أعمارنا، فيكون نتاجها ميلاداً يستمر ما بعد رمضان لا أن تكون خاتمة رمضان مرحلة إسقاط لمولود كنا نتعهده منذ بداية الشهر، فنكون بذلك رمضانيين كما يحدث مع الشريحة الكبرى من الناس، وقد يسأل سائل: كيف يكون رمضان يوم ميلاد حقيقي تسمو به نفسي ويرتقي قلبي؟! والجواب سهل بسيط: انظر لسيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، كان صنديداً في الجاهلية صنديداً في الإسلام، بل أعز الله به الإسلام استجابة لدعوة النبي الكريم، ميلاده بداية كان من سورة “طه” فإذا سورة كانت ميلاد هذا العظيم، أو ليس حرياً بنا أن يكون شهر القرآن بداية لميلاد الأمة؟! كل منا عليه أن يتعامل مع رمضان وكأن أيامه حبلى نتعهده بالصلاح والتقوى فنغذيه التزاماً واتباعاً عندها لا بد أن ينجب مولوداً صحيحاً قوياً يكون البداية لميلاد الأمة كل الأمة، أو لم يقل جلّ شأنه: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11).

إن لم يكن رمضان ميلاداً لصنديد في نفسي ونفسك يعز الله به الإسلام ويرفع به شأن الأمة فأي شهر نرجو به ميلاداً جديداً؟! أو ليس حرياً بنا أن نغتنم فرصة أن بلغنا الله الشهر ونبدأ منذ الآن ونكون اللبنة الأولى في بناء صرح مجد الأمة وعزها ومعول الهدم الذي يدك عرش الطواغيت وصرح الظالمين؟! ترى هل سيبقى بالعمر بقية لنشهد رمضاناً آخر أو حتى لنشهد خاتمته، قم يا أخي فالخلاص على يديك ومن ميلادك يبزغ فجر الأمة، قم.. فجُند الشيطان يجمع شمله ويكثف جمعه لمحاربة النور الذي يلوح في أفق فجر ميلادك، وأهل الحق عن نصرة حقهم تخاذلوا فإن لم نصنع ميلادنا أنا وأنت بهمتنا وعزمنا بالله عليك من ذا الذي يفعل! ويا من تدين لرب رمضان تذكر أن تخرج من شهر رمضان ربانياً لا رمضانياً، وضع نصب ناظريك أنّ القيام بالمعنى وتحقيق الغاية والهدف من الفريضة أولى عند الله من ختمات للقرآن نحصيها أو ركعات نتفاخر بين الخلق بتأديتها حركات خالية من المعنى.

المصدر: موقع “بصائر”.

Exit mobile version