“تجري الرياح بما لا تشتهيه السفن”، مثل ينطبق على عبدالإله بنكيران، رئيس الحكومة المغربية المنتهية ولايتها، الإسلامي الوحيد بالمنطقة الذي أوصل شراع سفينة حكومته إلى بر نهايتها القانونية، بعدما توالت سقوط أشرعة باقي الإسلاميين بل غرق بعضها.
أخذ من أمه الشخصية القيادية، وكان يعتزم الانخراط في حزب يساري في شبابه، وكان له الدور في إدخال الإسلاميين إلى اللعبة السياسية والوصول إلى الحكومة في أول تجربة لهم في تاريخ البلاد.
شخصية بنكيران صالحت المغاربة مع السياسة، وجعلت أسراً تتحدث عنها بعدما طلقتها في وقت سابق، فكيف استطاع هذا القيادي بخطابه وصمته ونكته وتحركاته ومواقفه أن يصنع صورة رجل في زمن قل فيه الرجال؟
بنكيران اليساري؟
عام 1954م، رأى عبدالإله بنكيران النور، بحي العكاري الشعبي بالعاصمة المغربية الرباط، وسط أسرة تنحدر من فاس (من أعرق مدن البلاد).
ارتباطه بالسياسي جاء من أمه مفتاحة الشامي التي كانت تحضر لقاءات حزب الاستقلال، حيث أسرَّ بنكيران في العديد من المناسبات أن علاقة خاصة تربطه بوالدته التي توفيت في ديسمبر الماضي، وأنها أثرت بشكل كبير في شخصيته القيادية.
عام 1979م، حصل بنكيران على الإجازة (الماجستير) في العلوم الفيزيائية، وشغل منصب أستاذ في المدرسة العليا للمعلمين في الرباط (حكومي)، حيث عمل حتى استقالته عام 1988م لتأسيس وإدارة مطبعة ومدرستين خاصتين.
تعاطف في بداية حياته مع تنظيمات يسارية (منها حركة 23 مارس)، كما اقترب من حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الاشتراكي (أكبر حزب يساري بالبلاد) في نفس الوقت تقريباً الذي كان يتردد فيه على حزب الاستقلال.
ربان الإسلاميين إلى سدة الحكم
“في السابق كانوا متوجسين منا، وبعد ذلك بدؤوا يراقبوننا، والآن يحرسوننا”.. جملة على لسان صديق لبنكيران لاحظ خلال خروجه من منزل بنكيران بعض أفراد الأمن يحرسونه، تلخص مسار الإسلاميين بالمغرب مع السلطة، حيث استطاع بنكيران أن يحل شفرة دخولهم إلى اللعبة السياسية.
عام 1976م التحق بتنظيم الشبيبة الإسلامية، بعد واقعة اغتيال الزعيم الاشتراكي (القيادي بحزب الاتحاد الاشتراكي اليساري) عمر بنجلون والتي اتهم فيها التنظيم، فدفع ذلك مرشدها المؤسس عبدالكريم مطيع إلى الهروب خارج البلاد من الملاحقة القضائية.
شخصية بنكيران القيادية مكنته من البروز ليصبح من قيادات التنظيم، لكنه قرر مع شباب جيله الانفصال عن الشبيبة عام 1981م احتجاجاً على طريقة إدارة المرشد، وعلى تبني هذا الأخير العمل الثوري المسلح.
وأسس بنكيران بمعية الشباب المنفصلين “الجماعة الإسلامية” (كان يتسم عملها بالسرية)، وانتخب بنكيران رئيساً للحركة عام 1986م بأغلبية تجاوزت الثلثين، فقاد الحركة لفترتين متواصلتين (1986 – 1994م) كانتا الأهم في تاريخها.
بعد اعتقالات طالت الجماعة الإسلامية، دعا بنكيران إلى الانتقال من السرية إلى العلن، وتغيير الاسم لتصبح حركة الإصلاح والتجديد.
تولى مع نائبه عبدالله بها عام 1990م وضع وثيقة تقبل فيها الحركة بالنظام الملكي، بل وتقر فيها بإمارة المؤمنين التي تؤسس للشرعية الدينية للملك ونظامه من أجل إقرارها.
وجلبت الوثيقة معارضة شرسة من المكتب التنفيذي للحركة، فوضع بنكيران وبها استقالتهما تحت تصرف قيادة الحركة، لكنها انتهت إلى القبول بالوثيقة بعد إعادة صياغتها.
يحرص دائماً على أن تكون علاقته بالملك جيدة
“إذا كنتم تريدون رئيس حكومة يتصارع مع الملك، ابحثوا عن رئيس حكومة آخر غيري”.. هكذا يردد بنكيران في لقاءاته الحزبية، وفي بعض المؤتمرات.
صالح المغاربة مع السياسة
ما بين تعيين العاهل المغربي لـعبدالإله بنكيران رئيس الحكومة المغربية، نوفمبر 2011م، وتاريخ إعفائه خلال مارس الحالي، جرت الكثير من المياه تحت الجسر الذي يربط الإسلاميين بالمغرب ومؤسسة الملكية، في تجربة تتسم بالخصوصية المغربية.
بعد تولي بنكيران لرئاسة الحكومة، تعرف المغاربة على شخصية مغايرة في أرفع منصب بعد العاهل المغربي، حيث كسر بنكيران العديد من الكليشيهات المرتبطة بهذا المنصب.
“يستقبل المواطنين بداره، يلتقي بهم بالمسجد ويتحاور معهم، يرد على اتصالاتهم الهاتفية”، أمثلة من بين أخرى جعلته رقماً صعباً في المعادلة السياسية بالبلاد.
خطابه القريب من المواطنين، جعل البقال والسياسي والممثل والفنان والرياضي.. يتحدثون في السياسة، وخطاباته تحت قبة البرلمان وخارجه جعلت الناس يتصالحون مع السياسة، بعدما ألفوها في صالونات مغلقة، خصوصاً أنه استطاع أن يجهل الرأي العام شاهداً على تدبير الشأن العام وعلى الصراع مع بعض مراكز النفوذ.
وكانت لجلسات البرلمان التي كان يحضر فيها بنكيران متابعة كبيرة في التلفزيون العمومي، بعدما كانوا عادة لا يتابعون ذلك.
منذ انتخابه أميناً عاماً للحزب في عام 2008م، وإعادة انتخابه في عام 2012م، وبعد قيادة الحكومة منذ عام 2011م، سطع نجم بنكيران حيث فاقت شعبيته الحدود.
له قدرة على التواصل، حيث جاء بخطاب سياسي جديد للساحة، فبقفشاته التي لا تفارقه، وبلغة بسيطة قريبة مما يتداوله بسطاء المغاربة، يحضر بنكيران في يوميات الحياة السياسية في المغرب.
وكان لخطاباته إبان الحملة الانتخابية دور كبير في ترجيح فوز حزبه، خصوصاً أنها كانت تذاع على المباشر في شبكات التواصل الاجتماعي.
بنكيران.. والنساء
ولا يخفي بنكيران في حواراته الإعلامية أنه لا يزال يقطن في بيت زوجته، حيث قال مازحاً في حوار مؤخراً مع مجلة “الرجل” المغربية: “أسأل الله أن يرطب قلب زوجتي حتى لا تطردني يوماً من البيت”.
وأضاف في هذا الحوار: نعم أبدي إعجابي بالنساء بحضور زوجتي، وتغزلي بالنساء فيه عفة وهو غير محكوم بنيات سيئة، فأنا أحب أن ألاطفهن وأتودد إليهن بقول جميل، يعبر عن الثناء والاحترام، وقد لا يخلو حديثي من مزاح ودعابة وفي حضور الناس.
بداية ونهاية
يتساءل العديد من المتتبعين عن كيفية وصول بنكيران إلى الباب المسدود في تشكيل الحكومة، جزء من الجواب على لسان بنكيران في لقاء حزبي مؤخراً قال فيه: المغربي يتساءل لماذا بعض الجهات ضد رئيس الحكومة والحكومة؟ إنه (المغربي) يفهم أن الحكومة تزعج أصحاب الفساد والمهيمنين على الأموال والذين يستفيدون من الصفقات غير المشروعة والذين اغتنوا في السنوات الماضية.
ويتابع: يعرف أن هذه الحكومة تريد للمواطن الخير، وأنتم تعرفون سير وحياة أعضاء العدالة والتنمية، فهم ينتظرون أن تسقط شعبية العدالة والتنمية، ولكن إذا أراد الله أن يسمو بشخص فلن يقدر أحد على فعل العكس.
يرى محللون مغاربة وأجانب أن الشعبية الكبيرة التي بات يعرفها بنكيران، بدأت تخيف باقي الزعماء السياسيين، خصوصاً في ظل نجاحه في قيادة الإسلاميين إلى سدة الحكم لأول مرة في تاريخ البلاد.
“بنكيران بالنسبة للحكومة انتهى”.. آخر تصريح لبنكيران بعد إعفائه من رئاسة الحكومة، ولكنه لا يزال أميناً عاماً لحزب العدالة والتنمية حتى الصيف المقبل، تاريخ انتخاب خلف له، وهو ما يعني أنه لم ينته من الصورة السياسية للبلاد حتى إشعار آخر.
نقلاً عن “الأناضول”.