من أوجب واجبات الحكومات تجاه الشعوب، أن تقوم على خدمتها، وأن توفر لها الاحتياجات الأساسية من غذاء ودواء وكساء وأمن وغير ذلك، وتتسع دائرة الخدمة لتشمل توفير التحسينيات في حدود ما تسمح به موارد الدولة وتتسع، وما تحققه الحكومات في إدارتها من نجاحات وإنجازات.
تلكم مسلمات لا ينتطح فيها عنزان، ولا يختلف فيها اثنان.
وينبغي أن تصب الإجراءات والتدابير في إدارة الدولة أول ما تصب في صالح حقوق الفقراء والضعفاء والفئات المهمشة حتى تحول بينهم وبين الجوع.
ويحكى التاريخ الإسلامي أنه حين امتنعت بعض القبائل عن دفع الزكاة التي هي حقوق الفقراء والمساكين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وشكلوا قوة، انتصب لهم الخليفة الأول أبو بكر الصديق قائلاً: “والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة – أي من أطاع في الصلاة وجحد الزكاة أو منعها – فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم على منعها”.
والعناق هي الأنثى من ولد المعز، وفي رواية “عقال بعير” والمراد بالعقال الحبل الذي يعقل به البعير أي قدر قيمته.
وبهذا كانت الدولة الإسلامية أول دولة في التاريخ تقاتل من أجل حقوق الفقراء والمساكين.
وما حدث في مصر من هبة شعبية عفوية في بعض المحافظات إزاء تخفيض الدعم عن الخبز يكشف حجم المعاناة التي يعيشها الناس بعد أن عضها الجوع مما ينذر باندلاع ثورة للجياع إذا استمرت الحال على ما هي عليها.
وفي تقديري أن ما حدث يدخل ضمن ما يعرف ببالون اختبار، وجس نبض، يقيس النظام من خلاله مدى قدرة الشعب على الصبر والتحمل وتجرع مزيد من جرعات الظلم والذل ونسيان إنسانيته وكرامته، ومدى خوفه على حياته ولوذه بالصمت تجاه ما يدبره النظام من صفقات جديدة.
أفهم جيداً كيف تقيس أجهزة الأنظمة الرأي العام والمزاج الشعبي في أي دولة، حتى يتسنى لها اتخاذ القرار المناسب سواء كان في مصلحة الشعب في الدول التي تنعم شعوبها بالحريات، أو كان ضد مصلحة الشعب لصالح الطغمة الحاكمة في الأنظمة المستبدة، أو لصالح من يملون عليهم القرارات كما في دول العالم النامية أو إن شئت الحقيقة فقل المتخلفة، وسواء كان القياس انعكاساً حقيقياً للحالة الشعبية أو كان لحالة مفتعلة تختلقها الأنظمة لتمرير ما تدبر له.
وكلما طأطأت الشعوب رؤوسها امتطى ظهورها جلادوها وأرسلوا أرجلهم، ومرروا ما يريدونه من صفقات بعد أن تأكدوا أن الشعوب قد ماتت إلى الأبد فيفعلون بها أكثر وأكثر، لأن الحال انتهت بها إلى ما وصفه أبو الطيب المتنبي: ما لجرح بميت إيلام!
غير أن الجانب الإيجابي في الحدث هو تحرك عموم الناس واعتراضهم بشكل عفوي وعلني وهتافهم بسقوط المستبد والجلاد، بعد أن فاض بهم الكيل، طارحين الخوف وراء ظهورهم، فليس بعد الجوع من ذل، وليس بعد الروح من روح.
هذه الهبة العفوية أجبرت المراقب الحكومي وأجهزته الراصدة التي كانت تراقب الوضع عن كثب وترصد النتائج بحذر إلى التراجع الفوري وربما التكتيكي وفق السيناريو المرسوم والمعد سلفاً في حالتي الرفض والغضب أو القبول والاستكانة.
لكن الجديد في هذا الحدث والذي يجب أن تتعلمه الشعوب وتستفيد منه هو أن صوتها حين يعلو يسمع لها، وأنها حين تزمجر ينصت لها، وحين تغضب تخشى الأنظمة أن تستمر في غضبها، وحين تطلب يلبى طلبها، وحين تحرص على كرامتها ولا تفرط في حقوقها وحريتها توهب لها السيادة والحياة والعزة، وتتجلى أمامها الحقيقة الشرعية بصورة واقعية وهي أن الولايات والمناصب ليست مغانم ولا وجاهات، إنما هي خدمة للشعوب بالمجان، وأن الحكومات إنما هي أجيرة عند الشعوب.
البعض لا يعول كثيراً على هبات الشعوب من أجل الخبز ويريدها هبات خالصة من أجل الحرية، وغاب عن هؤلاء أن الانتفاضة من أجل الخبز مقرة شرعاً، وأنه لا يوجد تعارض في طريق الإصلاح وحركة التغيير أن تثور الشعوب من أجل بطونها فتتحقق لها إرادتها ثم تتعلم وتتثقف وترتقي فتثور من بعد من أجل حريتها ولا تفرط فيها.
فهل يستدرج النظام وهو يتفاخر بأنه امتلك زمام القوة، وقضى على معارضيه واستأسد على الأسرى، وقتل الشباب غدراً في بيوتهم، هل يستدرج فيلقى حتفه من حيث مأمنه، ومن حيث لم يخطط ولم يحتسب وتجري عليه سُنة الاستدراج القائلة: “فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا”.
هذا غالب ظني في توقعي البشري، أما أكبر يقيني في الله فهو أن الله جاعل لما الشعوب فيه فرجاً ومخرجاً.
المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.