كثيرة هي الكتب التي تتحدث عن سِيَر الأعلام، سواء كانت سِيَراً ذاتية يكتبها أصحابها أم سِيَراً للرجال تُكتب عنهم، لكننا حين نتحدث عن كتاب «من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة» لمؤلفه الداعية المستشار عبدالله العقيل، فإننا أمام نوع مختلف من الكتابة عن الرجال.
ولأن مؤلفه داعية رباني، وإسلامي حركي، وسائح في أرض الله يترك أثراً خيّراً مباركاً أينما حل أو ارتحل، فإن الكتاب تنضاف إليه ميزةٌ أخرى إلى الميزات والخصائص التي تمتع بها هذا الكتاب ومنهجية الكتابة فيه.
نشأ عبدالله العقيل في بلدة الزبير بالعراق التي ولد فيها في ثلاثينيات القرن العشرين محباً للقراءة، وتنقل بين مصر، والمملكة العربية السعودية، والكويت، والأردن، وانضم مبكراً إلى صفوف دعوة الإخوان المسلمين فأحبها من كل قلبه، وآمن بها، ودافع عنها؛ فتراه هادئاً وادعاً وقوراً بعيداً عن الأضواء ممن ينطبق ع ليه قول القائل: «إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا حضروا لم يعرفوا»، إلا إذا هوجم الإسلام أو هوجمت الجماعة فتراه أسداً هصوراً يدافع عن الفكرة، ويبلغ الدعوة، ويدفع عنها الشبهة كأنما هو شاب في العشرين من العمر؛ نشاطاً وحيوية ودأباً، رغم أنه قارب الثمانين عاماً.
يتميز الأستاذ العقيل بحبه الشديد لإخوانه، وبخاصة من تربطه بهم ذكريات وأحداث ومعايشة، يقوم بخدمتهم، ويبذل لهم، ويقدم ما يستطيع لإسعادهم؛ هؤلاء الذين تفرقت ديارهم، وتنوعت اهتماماتهم، وتباينت انشغالاتهم، ولكن جمعتهم رحم الدعوة وهمُّ الإسلام.
كما أنه شديد الوفاء لهم، وبخاصة من مات منهم، وهذا يعتبر أهم الدوافع لكتابة موسوعته الماتعة عن أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة.
بل إنه يرى أن الكتابة عنهم واجب من واجبات الدعوة، وتعريف بذلك الجيل الطاهر والنموذج الفريد في العصر الحاضر من رجالات الإسلام الذين مثلوا الرجولة بأعلى مراتبها، وقدّموا الإسلام للعالم بأقوالهم وأفعالهم وسلوكهم، كأحسن ما يُعرض الإسلام المستقى من كتاب الله وسنة رسوله(1).
ويرى العلامة د. يوسف القرضاوي أن العقيل بهذا الكتاب: «أسقط فرض كفاية عن علماء الأمة، فكثيراً ما ذهب رجال كان لهم دورهم المشكور في الدعوة والجهاد والتربية والتثقيف، ولم يكتب عنهم أحد، فطُمست آثارهم، وجُهلت أخبارهم، على حين تمتلئ الساحات بالنكرات والإمّعات الذين أصبح يشار إليهم بالبنان، وهم لا في العير ولا في النفير»(2).
وهو ما ذكره كاتبنا نفسه في مقدمة الكتاب فقال: «ولقد نهضت للقيام بهذا الفرض الكفائي عن أجيال الدعوة المعاصرة أداءً وتسجيلاً لجانب من شمائلهم الكريمة التي سطروها بجهادهم ودمائهم، وشموخهم على سفساف الحياة، واستعصائهم على تهديد الطغاة والبغاة، وترفُّعهم على كل المغريات»(3).
ولقد تميزت منهجية العقيل في الكتابة عن هؤلاء الأعلام بعدد من الخصائص نذكر أبرزها في السطور الآتية:
أولاً: أنها منهجية على درجة عالية من المصداقية والموثوقية:
من ميزات وخصائص هذه الموسوعة أنها على درجة عالية من الموثوقية والمصداقية، وقد أتى ذلك من ناحيتين:
الناحية الأولى: هي المؤلف، وهو رجل لا يمكن أن تشكك في نزاهته وعدالته، وفي صدقه وإخلاصه، وفي حقيقة الروايات التي يرويها، والقصص التي يقصها عن هؤلاء الأعلام؛ فهو رجل دعوة، وابن فكرة، وداعية رباني.
الناحية الثانية: هي المنهجية التي سار عليها في الكتاب، والقواعد التي التزمها في الكتابة، يقول عنها: «ولقد التزمت منهجاً في الكتابة: أنني لا أكتب إلا عن معاصر التقيته، وهذا منهج الإمام البخاري – رحمه الله – وأن يكون متوفًّى، فلا أكتب عن الأحياء، فالحي لا تؤمن فتنته، وأن يكون من دعاة الإسلام العاملين، ورجال الحركة الإسلامية المجاهدين؛ لأن العلم وحده من دون العمل به ودعوة الناس إليه لا يجدي كثيراً»(4).
وهذه المنهجية الثلاثية تضمن لنا موثوقية ومصداقية عالية، فباللقيا نضمن أعلى سند للروايات التي يرويها لهم، والقصص التي يحكيها عنهم، وبالوفاة نضمن الثبات على المواقف وعدم التغير نتيجة الفتنة التي لا تؤمن على الحي فيتغير بها موقفه، وتتبدل بها آراؤه، وبشرط العمل والدعوة نضمن سيرة مفيدة وقدوة طيبة ومثالاً يحتذى.
ثانياً: أنها شاملة للتيارات الإسلامية والاهتمامات والمناطق الجغرافية:
ومن الخصائص التي تُميز هذه الموسوعة المباركة أنه شملت الترجمة لشخصيات من التيارات كافة، فلم يقتصر على المنتمين لحركة الإخوان المسلمين، وإن كان لهم نصيب الأسد في الكتاب، باعتبار تجربة الرجل وحياته واحتكاكاته وتجاربه، بل نوَّع الشخصيات فترجم لشخصيات محسوبة على التيار السلفي، مثل الشيخ الألباني، والشيخ ابن عثيمين، والشيخ ابن باز، وغيرهم، كما ترجم لشخصيات مستقلة لا تنتمي لأي تيار مثل الشيخ محمد أبي زهرة، والشيخ محمد الفاضل بن عاشور، والشيخ عبدالله بن زيد آل محمود، والشيخ حسنين مخلوف، والشيخ الشعراوي، وغيرهم.
كما نجد في هذه الموسوعة المباركة تنوعاً في التخصصات والاهتمامات للشخصيات محل الترجمة ما بين فقيه وعالم شرعي مثل: أبي زهرة، ومخلوف، وابن عاشور، وعبدالله آل محمود، وعبدالرحمن السعدي، وعبدالفتاح أبي غدة، ومحمد الخضر حسين، ومصطفى الزرقا.. وغيرهم.
وما بين مفكرين ومصلحين، مثل: أبي الأعلى المودودي، وأنور الجندي، ومحمد المبارك، ومحب الدين الخطيب، ومالك بن نبي، ومحمد الغزالي.. وغيرهم.
وما بين دعاة حركيين، مثل: مصطفى مشهور، ومحفوظ نحناح، ومحمد حامد أبي النصر، وحسن الجمل، وعمر التلمساني، وعبد القادر عودة.. وغيرهم.
وما بين شاعر وأديب وكاتب، مثل: صالح عشماوي، وأحمد أنس الحجاجي، ومحمود شيت خطاب، وجابر رزق، ونجيب الكيلاني، ومحمود غنيم، وسيد قطب، وعبدالرحيم محمود، ووليد الأعظمي، وعلي أحمد باكثير، وعمر بهاء الدين الأميري، وجمال فوزي.. وغيرهم.
وما بين مجاهدين وشهداء أبطال، مثل: يوسف طلعت، ومحمد صالح عمر، ومحمد سعيد باعباد، ومحمد فرغلي، ومحمد الصوابي الديب، وعبدالله عزام، وعبدالكريم الخطابي.. وغيرهم.
كما نجد الموسوعة غطت أعلاماً من أقصى بلاد العرب والمسلمين إلى أدناها: مصر، وليبيا، والمغرب، والجزائر، والسودان، والكويت، والبحرين، والهند، وباكستان، وسورية، والأردن، وفلسطين، والمملكة العربية السعودية.. وغيرها.
وهذا التنوع في الانتماءات والمشارب، والاهتمامات والوظائف، والجغرافيا والبلاد، من شأنه أن يعطي ثراء للعمل، ويجعل الفائدة منه أوسع، ومساحة قرائه أعم وأشمل، والدروس المستفادة من هذا التنوع أعمق تأثيراً وأكثر نفعاً.
ثالثاً: أنها وافية بحياتهم وغنية بمواقف مُعلّمة ومؤثرة:
ومن خصائص هذا الكتاب الماتع أنه احتوى تراجم وافية عن هؤلاء الأعلام، تحدث فيها عن كل علم من الأعلام من حيث: مولده، ونشأته، وحياته، ورحلاته، ومعرفته به، وصفاته، وأخلاقه، ومواقفه، ونشاطه، وآثاره إن وجدت له آثار، ومشايخه وتلاميذه أحياناً، وما قيل عنه أو شهادات بحقه، ووفاته، وغير ذلك.
قال شيخنا د. يوسف القرضاوي: «وقد أصدر – يعني المستشار عبدالله العقيل – كتاباً قيماً عن أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة، ترجم فيه لعدد من الأعلام والدعوة والجهاد، وأحسب أنه – شكر الله سعيه – وفَّاهم حقهم، وعرّف بفضلهم الأجيال الصاعدة»(5).
كما أن هذه التراجم حوتْ دروساً وعبراً من خلال القصص والمواقف التي أوردها عنهم يمكن أن تكون زاداً لأبناء الحركة الإسلامية، يرشد سلوكهم، ويوسع أفقهم، ويحفظهم من الخلل الفكري والخلقي والسلوكي بما يعود بالنفع عليهم وعلى الدعوة وعلى الأمة.
رابعاً: أنها متفردة في مادتها العلمية:
ومن خصائص موسوعة العقيل عن أعلام الحركة الإسلامية أنها متفردة في مادتها العلمية، فمصدرها الأساس هو المعايشة واللقيا والملازمة، فلم ينقل – إلا نادراً جداً – عن مصادر أخرى تحدثت عن هؤلاء الأعلام أو لهم أنفسهم، وإنما هي تجربة حياة، ومشوار طريق، ورفقة دعوة، ومسيرة إصلاح ومقاومة، وسيرة جهاد واستشهاد.
لقد استطاع المستشار عبدالله العقيل أن يسبر أغوار هذه الشخصيات، وأن يُخرج لنا من مكنونات صدورهم، وخبايا نفوسهم، ودقائق أسرارهم، وعمق حياتهم وطبائعهم، ونافع تجاربهم، وصلب مواقفهم، وثبات مبادئهم ما لا يمكن أن نقف عليه في كتاب من الكتب أو مصدر من المصادر بما يجعله «مصدراً» أساسياً عن هؤلاء الأعلام الدعاة الأدباء المجاهدين الأبطال يقوم شهادة وحجة على الدعاة العاملين، والمجاهدين الصادقين الربانيين؛ فضلاً عن غيرهم في كل زمان ومكان.
الهوامش
(1) من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة: 30، عبدالله العقيل، دار البشير، الطبعة العاشرة. 1429هـ/ 2008م.
(2) السابق: 34.
(3) السابق: 30.
(4) السابق: 31.
(5) السابق: 34.