ـ المثقف انعكاس للأصالة على معاصريه يدعوهم إليها ويلفت أنظارهم نحوها ويجعل ميزان منهجه التمسك بأهدابها
ـ المثقف من يقف مع قضايا أمته ويدافع عن حقوقها ويساند مطالبها المحقة ويكون منبر خير لرفع الظلم عنها
الأصل في المثقف أنه حامل مشعل النور في الحياة، ينير دروب الفضيلة لمن حوله، ويبذل الوسع لإحداث التغيير الإيجابي، من خلال نظريات تجديدية تعمل على الارتقاء بالفرد والمجتمع والدولة.
بل كثير منهم يصبح فكره عابراً للقارات، وبلا حدود، بفضل ما آتاه الله تعالى من نور البصيرة، وجلال المعاني، وحسن أداء الرسالة النظيفة التي تعمل على بناء الأجيال بلغة الأصالة، وتعيش عصرها، وتبني حاضرها بالتخطيط الصحيح، والتفكير السليم، والعمل الدؤوب، والجهاد الشامل الذي لا يعرف الكسل، ولا توجد كلمة عجز في قاموسه الحركي، مقدراً ضعف الإنسان، ولا يفوته تقدير الأمور بقدرها الصحيح، في عالم الجهد البشري، وما يعتريه من حالات تقعد به أحياناً، وترده إلى أصل جبلته، حتى لا يطغى، ولا تفرش له الأرض بورود البسط في العمل، فيصبح لا يلوي على شيء، فلا يوقر كبيراً، ولا يعرف شرف كبير، ولا يعطي كل ذي قدر قدره، وهنا تكون الطامة.
المثقف هو ذاك الذي يعتز بأصوله، ويتمسك بجذوره، ومن ثم فهو انعكاس لهذه الأصالة على معاصريه، يدعوهم إليها ويلفت أنظارهم نحوها، ويجعل ميزان منهجه التمسك بأهدابها.
المثقف صوت في عالم الفضيلة، وصورة في مجال الذوق، ونعمة في إطار الخير، وباب من أبواب المنافحة عن كل ما يحط من قدر أمته، أو يجعلها في دكاكين الضياع، فيقدم بجهده الثقافي ما يرتقي بالأمة، ويدفع الأجيال نحو مراتب العلا، ومدارج الرفعة، حتى تأخذ مكانها الذي به تثبت وجودها.
المثقف من يقف مع قضايا أمته، ويدافع عن حقوقها، ويساند مطالبها المحقة، ويكون منبر خير لرفع الظلم عنها، وإسنادها بكل معاني الإسناد المتاحة، التي تدخل في مجال تخصصه، وفيما أعطاه الله من موهبة.
دور الكلمة
ودور الكلمة وأثرها معروف معلوم، في كل مجالاتها، وسائر تفاصيلها، سواء كانت شعراً أم نثراً، خطابة أم قلماً، ورب كلمة يلقيها المرء يكون لها من الأثر ما لا يتوقع، بل ربما كانت هذه الكلمة سبباً في نهوض أجيال من الناس، والعكس بالعكس يذكر.
فالكلمة؛ مكتوبة أو مسموعة، مسؤولية وأمانة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ العبد ليتكلّم بالكلمة – مِنْ رضوان الله – لا يُلْقِي لها بالاً، يرفعه الله بها في الجنة, وإن العبد ليتكلم بالكلمة – من سَخَط الله – لا يُلْقِي لها بالاً، يهوي بها في جهنم» (أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح, والترمذي في سننه, ومالك في الموطأ).
فالمثقف ينبغي أن يكون عامل بناء، لا عامل هدم، ويعمل على إحداث ما من شأنه أن ينهض بهذه الأمانة، أما أن يتحول المثقف إلى معول هدم، لا يوفر تراثاً، ولا يحترم معاصرة، ولا يعرف لصفحة نور قدرها، ولا لساعة نظافة عزها، فهذا إشكال نعاني منه عناء كبيراً في ساحة امتلأت بمن يوصفون بالمثقفين، في الوقت الذي نراهم فيه يصنعون حوادث تشغل الأمة عن مهمتها، التي من خلالها يجب أن تأخذ دورها فيها، خصوصاً في زمن الصراع هذا.
يقال: إن النعمان بن المنذر خرج ذات يوم تتبعه حاشيته حتى مروا على تلة (مكان مرتفع من الأرض)، فوقف عندها النعمان وصار يتأمل في الطبيعة من حوله، عندها تقدّم إليه رجل من الحاشية فقال ذلك الرجل: ترى يا مولاي لو ذبح أحدهم على سفح تلك التلة إلى أين سيسيل دمه؟ ففكر النعمان لبرهة ثم قال: والله ما المذبوح إلا أنت! وسنرى إلى أين سيصل دمك فأمر به فذبح على رأس التلة.
فقال رجل من الحاشية: «رب كلمة تقول لصاحبها: دعني».
نشوء الفلسفة
«الفلسفة» التي تعني حب الحكمة، من خلال قواعد العقل، لصناعة قواعد رشد، لتحقيق مراد ما ذكرنا، أصابت أحياناً، وأخطأت أحياناً، ولذلك أسباب، وقامت عليه دراسات، وليس موضوعنا هنا هذه المسألة، ولكن نريد إثبات أن أصل نشوء الفلسفة هو البحث في الكون والإنسان والحياة، من أجل أن يسخر هذا المثقف (الفيلسوف) علمه وثقافته في خدمة مشروع الحياة.
أما عندما يتحول إلى «مرجِع صوت» لأفكار غريبة، وعناوين مثيرة، تحدث من الإرباك ما يزيد الطينة بلة في واقعنا المعاصر، فهذه معضلة ينبغي أن نكون على مستوى المسؤولية فيها، حتى نقول لهذا العابث: كفى لعباً بالأجيال، وإن مجرد رفعك لشعار الفلسفة بكل ما حوت، لا يعطيك تأشيرة مرور على كل ما حولك، ولا يمنحك «فيزا» مطلقة، تتيح لك التنقل في كل مساحات الشرود والضياع، حتى تسكبها علقماً في دوائر الثقافة، والوصول إلى الجماهير، بعد هذا الانفجار المعرفي الذي وصل حتى إلى الأدغال، كما أن انتماءك «القومي» وحده لا يعني أن لك حصة في هذه المساحات، حتى تقول: أنا أتحدث عن حصتي، وكأن ميراث العرق يحولك إلى ميراث كل شيء، وهذا غير معقول.
ويا ترى لو أنك نافست أحداً في ميراث مادي، لا يشملك بحكم قوانين الميراث الشرعية، هل سيسمح لك المقابل لك، أن تأخذ هذا بحجة الانتماء العرقي، أو القرابة اللصيقة؟ بالتأكيد سيكون الجواب لا؛ لأن هذه حقوق محددة، ولا يجوز الاعتداء عليها، ونقول لهذا: إن حقوق فكر الأمة، ونبل قيمها، وعظيم ميراثها الثقافي، أغلى من مال الدنيا؛ لأنه يتعلق بهويتها التي إذا ضاعت ضاع كل شيء، أما المال عرض زائل، يروح ويجيء، يا فضيلة الفيلسوف، ويا حضرة المثقف.
المثقف ومعادلة السلطة
ينبغي أن يكون المثقف حراً، وتسقط رسالته في الحياة، إذا كان عبداً لأحد من خلق الله، عبد مال، أو منصب، أو جاه، أو شرف، أو كرسي يقعد عليه، ولو على قارعة مقهى، أو كان عبداً لشهوة شهرة، وأحب أن يكون شيئاً مذكوراً.
ويتجلى هذا، بصورة واضحة، في معادلة السلطة ذات البريق الأخاذ، والفتنة الكبرى، وهي بطبيعتها جامعة لكل ما ذكرنا، من الأشياء التي من العادة ما يسيل لعاب كثير من الناس لها، وهنا يكون الخطر، وتكمن الكارثة، ويدق ناقوس الخطر، وتقرع طبول الإنذار، وتفرش سجاجيد الانزلاق، وتنصب حبال شنق الفضيلة في النفس، وشباك الصيد لمعاني الكرامة في ذات الإنسان، وهنا تبرز المعادن، ويكون محك الناس.
فالمثقف إذا عقد مصالحة مطلقة بينه وبين السلطة، صار يدور في فلكها، ينافح عن مواقفها مطلقاً، ويتماهى مع مشروعها بشكل كامل، ويذوب في برنامجها ذوبان الخانع، الذي يقول ما يرضي غيره، ولو خالف قناعته، هنا يكون المثقف حبيس شهوة، ولا يقول قولاً إلا إذا وافق هوى غيره، وهنا يكون الانحدار، وتكون الهاوية السحيقة التي تزري به في الدنيا، وفي الآخرة يحشر مع الظلمة والفساق، وأرباب الفساد؛ لأن هذا هو المكان اللائق بمثل هذا الصنف، من بائعي الضمير، ومن الذين اصطفوا مع المجرمين، وسخروا أقلامهم وألسنتهم ومواهبهم في خدمة الاستبداد، وانحازوا انحيازاً كاملاً في صف أعداء الحرية، وحقوق الإنسان وكرامته.
إن بيع بعض المثقفين للمستبدين أسقطهم من أنظار الناس، ولم يبق لهم أثر حسن بين الناس، ذلك لأن الناس لا يثقون إلا بالصادقين، أما المتملقون والمنافقون والمداهنون ليس لهم نصيب خير في نفوس الناس، ولا في ذاكرة الأجيال، وهذا أمر واقع معروف تاريخياً، ومعلوم اليوم من خلال دراسات «سيكولوجيا الجماهير».
رحم الله القائل: «إن كلماتنا تظل عرائس من شمع، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح، وكتبت لها الحياة».
نحن مع الحكمة، وندعو إلى الروية، وحساب الأمور بشكل صحيح، كل هذا نعم، على ألا يكون على حساب الحق، وعلى ألا يكون بالوصف الذي ذكرنا آنفاً.