الهندسة المالية قديمة قدم المعاملات المالية ذاتها، وإن كانت كمصطلح عرف طريقه للوجود والانتشار في الثمانينيات من القرن الماضي لمواجهة المخاطر التي تتعرض لها منشآت الأعمال، وقد كانت سوق رأس المال المنطلق الأساسي للهندسة المالية، فمن خلالها ابتكرت العديد من الأدوات والعمليات المالية، وعملت على صياغة حلول خلاقة لمشكلات التمويل، وبات مصطلح الهندسة المالية لصيقاً بالمشتقات المالية بدرجة كبيرة.
ومصطلح الهندسة المالية كمصطلح معاصر يدخل في عموم المباح في الشريعة الإسلامية؛ بل إن التحوط ضد المخاطر بتجنبها قدر الإمكان الذي هو قوام الهندسة المالية يحقق مقصداً من المقاصد الكلية في الشريعة الإسلامية؛ وهو مقصد حفظ المال، والمشكلة ليست في التحوط من حيث مفهومه، بل من حيث وسائله ومدى توافقها مع أحكام الشريعة الإسلامية.
لذا فالرؤية الشرعية للهندسة المالية بصورتها التقليدية تتوقف على المضمون، من خلال استخداماتها وما نتج عنها من ابتكارات؛ سواء فيما يتعلق بابتكارات أدوات أو آليات مالية جديدة، أو استحداث وتطوير عمليات أو آليات تسهم في رفع الكفاءة أو تحسين الأداء، أو تقديم حلول إبداعية لمشكلات التمويل.
ويبدو من جل استخدامات الهندسة المالية التقليدية أنها عملت على ابتكار وتطوير أدوات وآليات مالية تقع في دائرة ما حرم الله، وفي مقدمة ذلك السندات والمشتقات المالية وتوريق الديون والبيع على المكشوف وحتى الأسهم غير المنضبطة بضوابط الشريعة، وهذا شيء طبيعي؛ لأنها نشأت في ظل النظام الرأسمالي الغربي الذي مبتغاه الربحية بغض النظر عن الجوانب الأخلاقية أو التعاليم الربانية.
المالية في عهد الرسالة
ومن خلال مصطلح الهندسة المالية انبثق وانتشر مصطلح الهندسة المالية الإسلامية في واقعنا المعاصر، وإن كان مضمونه يمتد عبر جذور الماضي منذ عهد الرسالة، فقد عرف المسلمون الأوائل إدارة المخاطر والابتكار والتطوير ووضع حلول مبدعة لمشكلاتهم المالية في إطار البيئة التي كانوا يعيشون فيها، فحينما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وجد الناس يسلفون بالتمر السنتين والثلاث، فكان توجيهه صلى الله عليه وسلم بقوله: «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» (رواه البخاري)، وهو ما يبرز الهندسة المالية النبوية لبيع السلم من خلال تطويره بصورة فتحت المجال للناس للتعامل به لحاجتهم إليه رغم ما فيه من غرر، وذلك ببيان القدر الذي يتحقق بكل وسيلة ترفع الجهالة عن المقدار الواجب تسليمه، وتضبط الكمية الثابتة في الذمة ديناً يسلم في تاريخ معين بصورة لا تجعل مجالاً للمنازعة عند الوفاء.
كما كانت الهندسة المالية واضحة جلية في إدارة المخاطر في المضاربة، فقد كان العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه إذا دفع مالاً مضاربة، اشترط على صاحبه ألا يسلك به بحراً، ولا ينزل به وادياً، ولا يشترى به ذات كبد رطبة، فإن فعل ذلك فهو ضامن، فرفع شرطه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجازه. (رواه البيهقي).
والهندسة المالية الإسلامية باتت في واقعنا المعاصر – وما يشهده من تنامي العمل المصرفي والمالي الإسلامي – ضرورة ملحة للوقوف على الواقع المصرفي والمالي الإسلامي الميداني واحتياجاته وما يعتريه من مشكلات، وما يتطلب ذلك من إبداع في تطوير منتجات وآليات التمويل الإسلامي بصفة خاصة والخدمات المصرفية الإسلامية بصفة عامة، وصياغة حلول إبداعية لمشكلات التمويل الإسلامي بصورة تجمع بين فقه النص وواقع العصر بما يلبي حاجات المجتمع ويرفع الحرج والمشقة عن جمهور المتعاملين من المسلمين، وفي الوقت نفسه يمكن البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية من منافسة البنوك والمؤسسات المالية التقليدية، فضلاً عن استكمال المنظومة المعرفية والعملية للعمل المصرفي والمالي الإسلامي والمواءمة بين التنظير والتطبيق.
3 معايير حاكمة
وهذا يحتم أهمية التزام الهندسة المالية الإسلامية عند تصميم وتطوير وتطبيق أدوات وعمليات مالية مبتكرة، وصياغة حلول إبداعية لمشكلات التمويل الإسلامي بمعايير ثلاثة حاكمة، هي: المصداقية الشرعية، والكفاءة الاقتصادية، والكفاءة الاجتماعية.
والمصداقية الشرعية تعني اتفاق الهندسة المالية مع قواعد ومقاصد الشريعة الإسلامية، والكفاءة الاقتصادية تعني قدرتها على تحقيق الربحية الملائمة، وحسن التعامل مع المخاطر، مع مراعاة تيسير المعاملات، وتخفيض تكلفتها قدر الإمكان، بينما الكفاءة الاجتماعية تعني قدرتها على تلبية حاجات العملاء المتنوعة والمتجددة، ومراعاة أولويات المجتمع وحاجاته، وترسيخ قيمة العدل في منتجاتها وعملياتها.
انحرافات شيطانية
ومع ذلك، فإن واقع الحال يكشف انحرافاً في الهندسة المالية الإسلامية إلى ما يمكن تسميته الهندسة المالية الشيطانية باسم الابتكار وإيجاد حلول إبداعية خلاقة لمشكلات التمويل، فعمدت بعض البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية إلى تقليد منتجات الهندسة المالية التقليدية، حتى بتنا نقرأ ونسمع ونشاهد ما سموه المشتقات الإسلامية، وعن تطبيقات التورق المصرفي المنظم، وضمان القيمة الإسمية للصكوك بل وربحها، حتى بات المغلوب دائماً مولعاً بالغالب في سائر أحواله وعوائده كما قال ابن خلدون.
وليتهم رجعوا إلى ما كتبه عالم الإدارة الشهير «بيتر دراكر» منذ أكثر من خمسة عشر عاماً عن منتجات الهندسة المالية بمفهومها التقليدي، موجهاً سهام نقده للمؤسسات المالية التي بدلاً من أن تقدم خدمات مالية لعملائها أصبحت غالباً تتاجر لمصلحتها مع المؤسسات الأخرى لتكون النتيجة مباراة صفرية، فما تربحه مؤسسة ما هو نفسه ما تخسره المؤسسة الأخرى، وتأكيده على أن أهم الابتكارات التي ظهرت خلال الثلاثين عاماً الماضية كانت مشتقات مالية زعموا أنها علمية، ولكنها في حقيقة الأمر لم تكن أكثر علمية من أدوات القمار في مونتي كارلو أو لاس فيجاس، وهذه الأدوات تم تصميمها من أجل المزيد من التربح من عمليات المضاربة للمحترفين مع تقليل حجم المخاطرة التي يتعرضون لها.
لقد آن الأوان للهندسة المالية الإسلامية أن تراعي الجمع بين التراث والمعاصرة، بعيداً عن لي عنق النصوص، وأهواء النفوس، فتخرج من ضيق التقليد إلى رحاب الابتكار والتجديد، ومن فقه الحيل الشيطانية إلى رحاب المصداقية الشرعية، ومن الاهتمام بالربحية البحتة إلى مراعاة معها جنباً إلى جنب المسؤولية الاجتماعية.
مفاهيم اقتصادية
المضاربة
المضاربة تعني دفع المال إلى من يتجر فيه بجزء من ربحه، فهي إنفاق بين طرفين على أن يدفع أحدهما – ويسمى رب المال – نقداً معلوماً إلى الطرف الآخر – ويسمى رب العمل – ليعمل فيه، على أن يكون الربح بينهما بحصة شائعة ومعلومة، وعلى ألا يكون رب العمل ضامناً للمال إلا بتفريط منه أو عدوان. وتختلف المضاربة الشرعية عن المضاربة بمفهومها الوضعي والتي تطلق على الشراء والبيع بغرض كسب فروق الأسعار خاصة في البورصات.