“تحت الدرج” .. سكان الموصل يحتمون من “مصير مجهول”

سحب دخان سوداء تتصاعد، ودوي انفجارات عنيفة ومتتالية، يتزامن معها، أزيز رصاص كثيف، وأصوات نوافذ زجاجية تتحطم، وحجارة تتطاير قبل أن تتناثر أرضاً أو ترتطم بجدران وأسقف.

يتداخل مع كل ذلك بكاء وتمتمات وهمسات حول “مصير مجهول”، ودعاء إلى الله بالنجاة.

تفاصيل مشهد قاسِ عاشته المسنة العراقية “أم أحمد” وعائلتها، المكونة من تسعة أفراد، بينما كانت القوات العراقية تشتبك مع عناصر “داعش” الإرهابي في حي القادسية الثانية، شمال شرقي الموصل، شمالي العراق.

وكانت العائلة العراقية تنتظر في رعب وقلق شديدين مصيرها المجهول، في مساحة صغيرة أسفل الدرج (سلم) لمنزلها في حي القادسية الثانية، فتلك البقعة هي الأكثر أمنا في المنزل في حال تم استهدافه بالقذائف، لأنها مبنية من الخرسانة المسلحة بالكامل، شأن أغلب المنازل بالحي.

بعد ساعات من شروق شمس ذلك الصباح المزدحم بالانفجارات والدماء، عاشت عائلة “أم أحمد” فرحة مؤقتة عندما أعلنت قوات مكافحة الإرهاب العراقية اقتحامها لحي القادسية الثاني بالموصل لاستعادته من سيطرة تنظيم “داعش”.

تقول السيدة الستينية “أم أحمد”، لمراسل الأناضول عبر الهاتف: “في صباح الجمعة كانت الاشتباكات عنيفة وقذائف الهاون والمدفعية تسقط على منطقتنا من الطرفين داعش والقوات العراقية، وبعض الطلقات النارية أصابت منزلنا”.

وتضيف: “جميع سكان الحي كانوا يقبعون في منازلهم، ولم يتمكن أحد من النظر حتى من النوافذ المحطمة أصلاً، جراء القصف، كنا نسمع أصوات حجارة تسقط على منزلنا ولا نعلم مصدرها والخوف والرعب يخيم علينا ونحن نجلس بمسافة مترين تحت الدرج”.

“عندما يشتد القصف نلجأ إلى الجلوس تحت درج المنزل (تحت سلم المنزل)، كي يقينا من سقوط المنزل”، تكمل “أم أحمد” حديثها.

وتقول مصادر طبية، من داخل الموصل لمراسل الأناضول: إن المئات سقطوا بين قتيل وجريح جراء اندلاع اشتباكات بين تنظيم “داعش” والقوات العراقية.

وفي مساء ذلك “اليوم المشؤوم”، انخفضت حدة الاشتباكات، كما تقول “أم أحمد”، وبدأت تعلو أصوات دبابات ومدرعات تابعة للقوات العراقية في طرقات المدينة.

وبعد ساعات من الهدوء سمعت العائلة العراقية صوت أحد أصدقاء والدهم، ويدعى “سعد”، ينادي ليفتحوا له الباب قبل أن يبلغهم بأن الحي تحرر من “داعش” لينهمر الجميع في البكاء فرحة بالتخلص من سطوة ذلك التنظيم المتطرف.

وحين تلقيهم للخبر سارع أفراد عائلة “أم أحمد” بإبلاغ جيرانهم بأن حيهم قد تحرر، واكتملت فرحة الجميع بعد أن عاد التيار الكهربائي، بعد انقطاع كامل عن المدينة، قبل ثلاثة أيام، ويصل التيار من أحد المولدات المحلية.

وتقول المسنة العراقية: “تجدد الأمل أكثر بعودة التيار الكهربائي وبعض أفراد العائلة لم يناموا في تلك الليلة فرحاً بزوال (داعش)، وأحد أبنائي هم بحلاقة لحيته، إلا أني رفضت ذلك قبل أن نتأكد بشكل قطعي من رحيل عناصر التنظيم”.

ويفرض تنظيم “داعش” على سكان المناطق، التي يسيطر عليها إطلاق اللحى، وارتداء ملابس محددة، ويعاقب المخالفين بسداد غرامة مالية أو الجلد أمام عامة الناس.

وأعلن جهاز مكافحة الإرهاب الجمعة الماضي، اقتحام حي القادسية الثانية لاستعادته من تنظيم “داعش”، الذي يسيطر على الموصل منذ العاشر من حزيران/ يونيو 2014، بعد أن تمكنت القوات العراقية في التوغل بأحياء المدينة الشرقية والشمالية الشرقية.

تلك الفرحة برحيل التنظيم الإرهابي، لم تدم طويلاً في قلوب عائلة “أم أحمد”، ففي صباح اليوم التالي (السبت الماضي) استيقظ الجميع على صوت انفجار هز أرجاء المنزل ليبدد حلمهم بالنجاة من جحيم حرب استعرت من جديد في المدينة.

“بيداء” (29 عاما) تناولت طرف الحديث من والدتها، لتروي للأناضول ما جرى في ذلك الصباح بصوت مخنوق: “صباح السبت استيقظنا على صوت انفجار هز منزلنا فقد استهدفت سيارة مفخخة يقودها انتحاري القوات العراقية في الحي”.

وتضيف: “تسللت إلى الطابق العلوي وأقدامي تجرني عنوة لأرى ما يحدث، لأتفاجأ بوجود عشرة من عناصر (داعش) تحت منزلنا يحملون أسلحتهم وعادوا مجدداً للاشتباك مع القوات العراقية”.

“وعند الساعة الرابعة من عصر السبت طرق باب منزلنا جارنا أبو محمد وطلب منا أن نجهز أنفسنا ليصطحبنا إلى بيته الذي يعتبر أكثر أمناً في الحي”، تكمل “بيداء”.

وفي البداية رفضت عائلة “أم أحمد” مطلب جارها إلا أنها استجابت أمام إصراره فالخطر الذي يحيط بمنزل العائلة كبير وقد تصيبه الاشتباكات في أي وقت، مع قربه من موقع المواجهات.

تحسنت الحالة النفسية لأفراد العائلة فقط في منزل “أبو محمد” فهو بعيد عن محيط الاشتباكات، كما أنهم وجدوا هناك جيراناً آخرين.

تتابع “بيداء”، وهي تروي قصة معركة حيهم السكني: “جارنا أبو محمد أعطانا غرفة في منزله، إلا أننا كنا نجتمع في غرفة الاستقبال لنتبادل أطراف الحديث في شتى المجالات في محاولة لنسيان ما يجري، لكن مصيرنا المجهول وأصوات الاشتباكات والقصف العنيف يجبرنا على العيش في لحظات رعب وقلق وبكاء متواصل في كثير من الأحيان”.

واعتاد سكان الموصل على تواجد أكثر من عائلة في منزل واحد، مع اشتداد المعارك في أحياء المدينة بين تنظيم “داعش” والقوات العراقية.

ويقول مصدر أمني عراقي، لمراسل الأناضول، مفضلاً عدم الكشف عن اسمه: إن “الكثير من العائلات والمدنيين معرضون لقصف خاطئ أو غارات جوية خاطئة من الجيش العراقي أو قوات التحالف الدولي”.

ويضيف المصدر، وهو من قيادة عمليات المحور الشمالي في الموصل (تابعة للجيش العراقي)، أن “14 مدنياً قتلوا الأسبوع الماضي بقصف جوي خاطئ على منزلهم في حي السلام، جنوب شرقي الموصل، والمقابل لحي الانتصار الذي تمكنت القوات العراقية من تحرير أجزاء منه”.

ويشير إلى أن 9 مدنيين، بينهم أطفال قتلوا، السبت الماضي، في قصف جوي يعتقد أنه لطائرات تابعة للتحالف لمنزلين قرب مدينة ألعاب دجلة (مدينة ملاهي) شمال مدينة الموصل.

وفي 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، انطلقت معركة استعادة الموصل، بمشاركة 45 ألفاً من القوات التابعة لحكومة بغداد، سواء من الجيش، أو الشرطة، مدعومين بالحشد الشعبي، وحرس نينوى، إلى جانب “البيشمركة ” (قوات الإقليم الكردي).

وتحظى الحملة العسكرية بغطاء جوي من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة.

واستعادت القوات المشاركة خلال الأيام الماضية، عشرات القرى والبلدات في محيط المدينة من قبضة “داعش”، كما تمكنت من دخول مدينة الموصل من الناحية الشرقية.

Exit mobile version