تعداد المسلمين في العالم يقترب من ربع السكان – نحو مليار و700 مليون – وفي المسلمين أكبر نسبة من الفقراء في العالم، وأكبر نسبة من اللاجئين، بينما يكتنز أغنياؤهم أرقاماً فلكية من الثروات، التي توظف في دعم الاقتصادات الغربية، أو التي تتم المقامرة بها في البورصات.
ولقد بلغ التفاوت في الدخل السنوي بين الأغنياء والفقراء وفي عالم الإسلام – بين نحو 40 ألف دولار و100 دولار فقط لا غير! وهناك من يموت من التخمة، ومن يبيع عقيدته لقاء كسرة خبز أو جرعة دواء.
لذلك كانت العدالة الاجتماعية هي أولى الفرائض الغائبة في بلاد الإسلام، ولقد احتلت هذه القضية مكان الصدارة لدى عدد كبير من رموز الحركة الإصلاحية الإسلامية من جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وحسن البنا، وحتى الشيخ محمد الغزالي، ومن بعده سيد قطب.
لقد جعل الشيخ الغزالي رحمه الله من قضية العدل الاجتماعي أولى معاركه الفكرية، التي أفرد لها أول مؤلفاته “الإسلام والأوضاع الاقتصادية” عام 1947م، وكان سيد قطب أول من لفت الأنظار إلى هذا الكتاب.
ولأن هذه القضية قد غابت – أو كادت – عن برامج الأحزاب الإسلامية المعاصرة، كان من الواجب تذكيرهم ببعض ما كتب الغزالي في هذا الموضوع، لقد قال:
لقد رأيت ـ بعد تجارب عدة ـ أنني لا أستطيع أن أجد بين الطبقات البائسة الجو الملائم لغرس العقائد العظيمة، والأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة، انه من العسير جدا أن تملأ قلب إنسان بالهدى إذا كانت معدته خالية، أو أن تكسوه بلباس التقوى إذا كان جسده عارياً، إنه يجب أن يؤمن على ضروراته التي تقيم أوده كإنسان، ثم ينتظر بعدئذ أن تستمسك في نفسه مبادئ الإيمان، لذلك، لا بد من التمهيد الاقتصادي الواسع، والإصلاح العمراني الشامل، إذا كنا مخلصين حقاً في محاربة الرذائل والمعاصي والجرائم باسم الدين، أو راغبين حقاً في هداية الناس لرب العالمين.
إن بعض ذوي الآفاق المغلقة يتوهمون أن إدخال العوامل الاقتصادية في الرذائل والفضائل جنوح إلى التفكير الشيوعي القائم على النظرة المادية المحضة للحياة، واستهانة بالقوى الروحية السمية، وهذا التوهم خاطئ فلسنا نغض من قيمة الجانب الروحي، بيد أن ذلك لا يعني إغفال المشاهد المحسوسة، من تولد الرذائل الخطيرة في المجتمعات المصابة بالعوز والاحتياج، بل إن الاضطراب الاقتصادي في أحوال كثيرة جداً قد يكون السبب الأوحد في نشوء الرذيلة وشيوعها، والحديث النبوي الذي يلمح فيه نبي الإسلام ـ صلي الله عليه وسلم ـ إلى أن المعاصي توقع فيها الضوائق المادية ـ حديث: إن المدين قد تلجئه قلة الوفاء إلى الكذب، يضع أيدينا على طرف الحقيقة التي بدأ الناس يفهمونها الآن كاملة!
إن بقاء كثير من الناس صرعى الفقر والمسكنة، هو هدف أكثر الحكومات المتتابعة، في العصور السابقة واللاحقة، إذ إن تجويع الجماهير بعض الدعائم التي تقوم عليها سياسة الظلم والظلام، ومن هنا انتشر الفقر في الشرق، وسخر الدين ورجاله لحمل الناس على قبوله واستساغته، وفسرت نصوص الدين المتصلة بهذا المعنى تفسيراً سقيماً، نسي الناس معه حقوقهم وحياتهم، وجهلوا دنياهم وأخراهم، وحسبوا الفقر في الدنيا سبيلاً إلى الغنى في الآخرة.
إن هدف الديانات والرسالات هو قيام التوازن بين الناس بإقامة العدل الاجتماعي والسياسي فيهم، وقيام الناس بالقسط ـ العدل ـ هو محور الارتكاز الذي لا يتغير أبداً، وقد قال بعض علماء الأصول: إن مصالح الناس المرسلة، لو وقف دون تحقيقها نص تم تأويل النص، وأمضيت المصالح التي لابد منها وللحكومة ـ من وجهة النظر الدينية ـ أن تقترح ما تشاء من الحلول، وأن تبتدع ما تشاء من الأنظمة لضمان هذه المصلحة، وهي مطمئنة إلى أن الدين معها لا عليها ما دامت تتحري الحق، وتبتغي العدل، وتنضبط بشرع الله فيما تصدره من اقتراحات وقوانين.
إن المال الذي يكفي لإذهاب الغيلة، واستئصال الحرمان، وإشاعة فضل الله على عباده، يجب إخراجه، مما عظم ـ من ثروات الأغنياء، ولو تجاوز بعيداً مقادير الزكاة المفروضة، لأن حفظ الحياة حق إسلامي أصيل، ومقادير الزكاة ليست إلا الحد الأدنى لما يجب إنفاقه، وقد ورد عن النبي صلي الله عليه وسلم: “إن في المال حقاً غير الزكاة” (رواه الترمذي)،
برنامج اجتماعي واقتصادي
وبعد عرض فلسفة الإسلام في الثروات والأموال، وضع الشيخ الغزالي برنامجاً اجتماعياً واقتصادياً، سبق به الحزب الشيوعي المصري وطالب الحكومة بتنفيذه، لإقامة العدل بين الناس، وفي هذا البرنامج طالب ودعا إلى:
1- تأميم المرافق العامة، وجعل الأمة هي الحاكمة الأولي لموارد الاستغلال، وإقصاء الشركات المحتكرة لخيرات الوطن، أجنبية أو غير أجنبية، وعدم إعطاء أي امتياز فردي من هذا القبيل.
2- تحديد الملكيات الزراعية الكبرى، وتكوين طبقة من صغار الملاك تؤخذ نواتها من العمال الزراعيين.
3- فرض ضرائب على رؤوس الأموال الكبرى، يقصد بها تحديد الملكية غير الزراعية.
4- استرداد الأملاك التي أخذها الأجانب وإعادتها إلى أبناء البلاد، وتحريم تملك الأرض المصرية على الأجانب تحريماً مجرماً.
5- ربط أجور العمال بأرباح المؤسسات الاقتصادية التي يعملون بها، بحيث تكون لهم أسهم معينة مع أصحابها في الأرباح.
6- فرض ضرائب تصاعدية على التركات تنفق في أوجه الخير علي النحو الذي أشار إليه القرآن، إذ يقول: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً {8}) (النساء).
ثم ختم الشيخ الغزالي بنود هذا البرنامج الاجتماعي الاقتصادي بقوله: إنه لو لم يبق لكل فرد من أفراد الشعب إلا قوته الضروري لما جاز أن تتراجع الدولة في تحقيق هذا البرنامج الذي تعلن به الحرب علي الظلم والجهالة والاستعمار.
هكذا تحدث الشيخ الغزالي حديث الفيلسوف الاجتماعي والخبير الاقتصادي، الذي تربي في مدرسة القرآن والذي أعلن أن مالك المال هو الله، وأن الناس ـ كل الناس ـ مستخلفون في هذا المال، (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (الحديد:7).
لقد ثار الشيخ الغزالي ضد ترك الأمة أموالها ـ وأموال الله للسفهاء ـ مع أن القرآن ينهي عن ذلك، ويقول: (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً) (النساء:5).
لقد كان الشيخ الغزالي واحداً من فلاسفة العدل الاجتماعي في القرن العشرين، ولقد قال قبل وفاته: إن عندنا في الإسلام نظريات اقتصادية لو عرفها الأوروبيون لطلقوا كارل ماركس وداسو عليه بالنعال ـ كما فعلوا الآن، وأن النظام الرأسمالي المنتعش الآن ستهلكه جراثيمه وتلحقه بالنظام الشيوعي!
فهل تولي الأحزاب الإسلامية الاهتمام بالعدل ـ الذي هو اسم من أسماء الله ـ بدلاً من حديث البعض عن العقوبات، والعقوبة ليست من أسماء الله؟!
المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.