كيف تحقق الرضا؟ (برنامج عملي)

بعد أن تحدثنا في الحلقات الماضية عن سمات الرضا والسعادة، والعلاقة بينهما، وأجبنا على سؤال: هل الرضا هبة من الله أم توفيق؟، وتحدثنا عن منظومة الرضا، نعرض في ختام هذه السلسلة برنامجا عمليا لاتخاذ قرار “الرضا”، وتحقيقه بالاستعانة بالله تعالى.

خطوات البرنامج:

أولا : فر إلى الله فتوضأ –جدد وضوءك- وصل وكأنها آخر صلاة لك.

ثانيا: اقرأ ما تيسر من الذكر الحكيم وتدبر ما يفتح الله لك به من العبرات والعظات، ولتكن آية واحدة المهم ما يوفقك الله لبلوغه من معاني وحكم من التلاوة، ولتتدبر هذه الآيات:

ولنأخذ موقف سيدنا موسى عليه السلام مع فرعون:

فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) سورة الشعراء

كم بلغ اليقين من سيدنا موسى في موقف تقشعر له أبدان الأبطال الشجعان إلا من اطمأنَّ قلبه بذكر الله وأيقن أنه عبد لرب عظيم قادر، فالمهم أن يرضى العبد، فإن رضي فقد نجح في الابتلاء ويتولى المولى عز وجل الأقدار.

لم يعلم موسى كيف سينجيه الله، ولكنه موقن أن فرعون بكل جبروته وجنوده لن يدركه؛ لذا فانطلق فؤاده قبل لسانه “كلا” وهي لا تنفي فقط قول أصحاب موسى إنهم مدركون – ولهم كل الحق برؤيتهم البشرية – ولكن تزجرهم لسوء ظنهم وعدم ثقتهم بربهم، وكانت إجابة موسى قاطعة لم تتطرق للكيفية؛ لأن هذه من أقدار الله ولكن عن إيمانه الراسخ بوعد الله ” قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى” طه (46)،  فاطمئن قلب موسى ولم يعترض كيف يا ربي تتركني أمام هذا الجيش، وكيف سأنجو؟ بل هو اليقين بقدرة الله عز وجل.

ثالثا : أحْضر قلمًا وأربع ورقات وسجل ما يلي:

(‌أ)   الورقة الأولى عنْونها “ابتلاءات مررت بها ولله الحمد والفضل والمنة عافاني الله وإياك منها”:

أغمض عينيك وتذكر أقسى ابتلاء مررت به، وتعايش معه كلية، وتذكر قسوته ومرارته وكم عانيت منه، وانتقل إلى الجو النفسي الذي كنت تعانيه واستحضره والألم الذي كنت تقاسيه واستشعر كل آهاتك واستطعم مرارته في حلقك…، واستمر عدة دقائق ثم أفق! وتذكر فضل الله عليك وقد رفع الله البلاء وعافاك منه أو صبرت بفضل الله وتعايشت معه  -ولم تقف الدنيا عنده- وكم كان الخير في صبرك ورضاك إن كنت قد اتخذت قرارك بالصبر ووفقك الله أن تنال أجر الصابرين، وإن كان -نعوذ بالله- غرر بك شيطانُك وتضجرت وسخطت، وقد أنفذ الله قدره كما شاء، فاستغفر لظلمك لنفسك، فلم يغير ضجرك شيئا من مشيئة الله.

تذكر نتائج هذا الابتلاء فقد تكون أدركت الآثار المادية الطيبة له، أو أنه تكفير لذنوب اقترفتها أو أن الله يريد أن يرفع درجاتك من الجنة، وطاقتك على الصلاة والصيام…، لا تصل بك لهذه الدرجات. حكم وعظات وعبرات عظيمة يتعرف عليها المؤمن بفضل الله من نعم الابتلاء، إن بذل وأمعن الفكر في ابتلاءاته فيمنَّ الله عليه بها، حتى إن مجرد التدبر في حد ذاته له الأجر بفضل الله.

ثم انتقل إلى ابتلاء آخر وكرر معه نفس المنهجية، ثلاث.. أربع.. خمس.. ابتلاءات حتى توقن بفضل الله عليك في هذه الابتلاءات، فتخر ساجدا لله على فضله عليك.

(‌ب) الورقة الثانية عنوانها “ابتلاءات توقعتها ولله الحمد والفضل والمنَة عافاني الله منها ولم تقع”:

إن توقع الابتلاء والخوف منه قد يكون أصعب من وقوع الابتلاء ذاته. كرر نفس المنهجية السابقة وتذكر فضل الله عليك أن عافاك من وقوع هذه الابتلاءات وكيف وان وقعت قد يحدث كذا وكذا ولكن الله بعفوه رفعها عنك وقد كادت تطبق عليك، وايقن أن فضل الله عليك عظيم فعلا فتخر ساجدا الله على فضله عليك.

(‌ج)    الورقة الثالثة عنونها “ابتلاءات يعاني منها آخرون ولله الحمد والفضل والمنَة عافاني الله منها”:

استعرض ابتلاءات الآخرين حولك وعبر ما تنقله شبكة الإنترنت، واختر أحد هذه الابتلاءات وتعايش معه فعليا إن أمكن أو على الأقل معنويا بعض الوقت، واستشعر الآلام النفسية والمادية التي يعانيها من ابتلاهم المولى عز وجل بهذا الابتلاء ثم تذكر دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم (مَن رَأَى مُصابًا فقال الحمدُ للهِ الذِي عافاني مما ابتَلاكَ به وفضَّلَني على كثيرٍ مِمَّنْ خَلَقَه تَفْضِيلا لم يُصِبْهُ ذلك)، ثم كرر ذلك مع ابتلاءات أخرى، ثم تذكر أن الله تعالى -بحمده وفضله- قد عافاك مما ابتلى به غيرك، وقد يكونون أكثر عبادة منك، ولكن لله الحكمة البالغة في الابتلاء والعفو.

تعايش مع فقه السيرة واستذكر ابتلاءات الرسول سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو أكرم الخلق على المولى سبحانه وتعالى، وكيف عانى في سبيل دعوته، وكيف كان همه عندما تطاول عليه الصبية في رحلته إلى الطائف ألا يكون عليه غضب من الله، فقد تضاءلت بل تلاشت آلامه البدنية والنفسية أمام مرضاة الله. كما تذكر مصيبة المسلمين بل الإنسانية بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي، ويقول المولى عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } (الأنبياء:35).

إن معايشة ابتلاءات الآخرين ومشاركتهم آلامهم يقلل من التأثير السلبي لما نعانيه من ابتلاءاتنا، وقد قالت الخنساء يوما حين فقدت أبناءها:

ولولا كثرة الباكين حولي *** على قتلاهمُ لقتلت نفسي

(‌د)  الورقة الرابعة عنونها “قبس من نعم ربي علي ولله الحمد والفضل والمنَة”:

تذكر قبسًا من نعم الله عليك، ثم اختر نعمة مادية أو معنوية وتعايش فعليا أو معنويا وكأن الله –نعوذ به- سلبك هذه النعمة. استشعر كم هي آلامك ومعاناتك بفقدانك هذه النعمة، كرر ذلك عدة مرات ثم أفق وأنت تتمتع بهذه النعم الجمة، واسجد لله حامدا على فضله عليك، وقد أنعم عليك بهذه النعمة، وما زلت تتمتع بهذه الكم الهائل من النعم التي لا يمكنك حصرها، وتذكر أن نعمة الشعور بالنعمة أجل وأفضل من نعمة النعمة.

رابعا : الدعاء

إن اللجوء إلى الله والتذلل بين يديه والتوجه إليه بالدعاء، وقد دعنا الله لمناجاته وطلب حاجاتنا منه سبحانه، فقال: “وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ” (غافر: 60). ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم “الدعاءُ مخُّ العبادةِ”، “إنَّهما -أي الدَّعاء والقَدر- يحتجَّانِ” (أورده الشوكاني في الفتح الرباني وهو صحيح، 3/1340)، كما أن كتب الرقائق والبوابات الإسلامية تتضمن العديد من آيات الكريمة والأحاديث الشريفة الدعاء الخاصة بفك الكرب.

بمشيئة الله بعد هذا سينعم عليك الكريم المنان بنعمة الرضا، ومما يساعد أيضا على الرضا تنميةُ المعارف والمهارات والقدرات العقلية والنفسية، والتي ترتقي بكفاءة الإنسان على مواجهة المواقف وتُحَسن من صورته الذهنية عن نفسه، فيستعين المؤمن بالله ولا يعجز.

Exit mobile version