مصر: هويدي حول الخطبة المكتوبة: معركة لغير وجه الله

تعليقا على اللغط الدائر في مصر في الفترة الأخيرة حول الخطبة المكتوبة التي ألزمت بها وزارة الأوقاف الخطباء بها، تناول الكاتب المصري فهمي هويدي في مقاله اليوم (المنشور في الشروق المصرية والسبيل الأردنية) العلاقة بين المؤسسات الدينية الثلاث (مشيخة الأزهر، ودار الإفتاء، ووزارة الأوقاف) مستعرضاً تاريخ العلاقة بين ثلاثتهم، وملخصاً طبيعة هذه العلاقة في الوقت الحالي بأنها: “لم تخرج من عباءة الأمن، إلا أن التنافس ظل دائراً حول موقع كل منهما تحت العباءة”.

حيث يقول الكاتب المصري تحت عنوان “معركة لغير وجه الله”:

 أثناء التجاذب الحاصل في مصر بين وزير الأوقاف والأزهر حول بدعة خطبة الجمعة المكتوبة، وجه أحد مسؤولي الأوقاف تحذيراً لتخويف المعارضين قال فيه: إن «غير الملتزم بالمكتوب سيعتبر من الإخوان ومشتقاتهم». وكانت صحيفة «المصري اليوم» قد أبرزت التحذير على صفحتها الأولى يوم الأحد ٣٠/٧ منسوباً إلى الشيخ حمادة المطعني مدير أوقاف السيدة زينب. ومعروف أن هيئة كبار العلماء التي يترأسها شيخ الأزهر رفضت الفكرة ووصفتها في بيان أصدرته يوم ٢٦/٧ بأن من شأنها «تجميد الخطاب الديني»، إلا أن الوزير الذي ليس عضواً ضمن كبار العلماء أصر على موقفه، وتحدى مشيخة الأزهر والهيئة المذكورة. وغاية ما استطاع أن يفعله أنه استثنى الخطباء التابعين للأزهر من قراره، في حين تمسك برأيه بضرورة قراءة المكتوب في المساجد التابعة لوزارة الأوقاف. ولا يزال الجدل مستمراً بين مؤيدي المكتوبة ومعارضيها. وتخلل الجدل ذلك التهديد والوعيد الذي أشرت إليه تواً. وقيل في هذا الصدد: إن بعض خطباء الأوقاف من معارضي الفكرة شكلوا حملة «تمرد» وطالبوا بإقالة الوزير، وتندر أحد المدونين على الاقتراح حين دعا إلى «تطويره» بحيث تُطبع نسخ من الخطب المكتوبة، على أن توزع على الداخلين إلى المساجد لقراءتها والاستعاضة بذلك عن وظيفة الخطيب والمنبر الذي يعتليه.

هذا التجاذب ليس جديداً، ولكنه ظهر إلى العلن في الآونة الأخيرة. وهو جزء من الصراعات المكتومة بين أجهزة الدولة، وإن اتسم بالحساسية لأنه حاصل في محيط المؤسسة الدينية، التي يفترض البعض فيها بعض الخصوصية، نظراً لمكانتها المتميزة لدى الإدراك العام. فأي دارس للتاريخ يعرف أن مشيخة الأزهر ظلت الجهة المسؤولة تاريخياً عن النشاط الديني تعليماً ودعوة وإرشاداً وإفتاءً، إلا أن الأزهر أثار الانتباه حين أصبح في مقدمة قلاع المقاومة الوطنية المصرية التي تصدت للاحتلال الفرنسي، (عام ١٧٩٨م). أما الأوقاف فقد كان لها «ديوان» لم يكن له صلة بالشأن الديني، ولكن دوره ظل محصوراً في رعاية الشؤون المالية والإدارية المتعلقة بما تم وقفه لأعمال البر والخير. وثمة لغط بين الباحثين حول دوافع فصل الإفتاء عن مشيخة الأزهر وإلحاقه بوزارة العدل (الحقانية آنذاك). وهو ما أرجعه بعض الباحثين إلى محاولة خلخلة دور الأزهر وإضعافه، حتى لا ينفرد بالرعاية الروحية للمجتمع. ولم يسلم من اللغط اقتراح اللورد كتشنر ــ المعتمد البريطاني ــ بإنشاء حقيبة للأوقاف وأخرى للزراعة في عام ١٩١٣م. إذ مع ظهور هذين الكيانين لاحت بوادر تنازع الاختصاص بين مشيخة الأزهر من ناحية وبين وزارة الأوقاف ودار الإفتاء من ناحية ثانية. وظل هم من شغل المنصب في الجهتين الأخريين هو كيف يوسع من اختصاصه ليثبت حضوره إلى جانب الأزهر، ولكي ينافسه أو يزايد عليه في مجالات اختصاصه. وهو التنافس الذي اشتد أواره في السنوات الأخيرة التي تنامى فيها دور الإسلام السياسي، وبرزت في الأفق جماعات العنف والإرهاب، الأمر الذي استدعى المؤسسة الدينية لكي تقوم بدور في صد الجائحة.

وظل الهدف المعلن متمثلاً في كيفية السيطرة على المؤسسة الدينية لكي تؤدي دورها في خدمة السياسات المعلنة. ولأن تلك الدائرة تحديداً ظلت مجال التنافس بين المؤسسات الثلاثة فإن ذلك استصحب حضوراً دائماً وتنافساً مستمراً بينها في نسج العلاقة مع المؤسسة الأمنية. ولم يكن مبدأ العلاقة هو مجال التنافس، لأن الجميع حرصوا عليها، وإنما ظل التنافس دائراً حول حدودها ومداها. والمتابعون لأنشطة المؤسسات الثلاثة وجدوا أن حضور الأمن في وزارة الأوقاف ودار الإفتاء ظل أقوى منه في مشيخة الأزهر. إن شئت فقل: إن علاقة الأزهر اتسمت بقدر من الاحتشام بدرجة أو أخرى، فقد ظل لها سقف فرضته خصوصية المشيخة سواء برمزيتها في العالم الإسلامي، أو بتاريخها الممثل أو بوجود هيئة كبار العلماء التي ضمت بعض القامات العلمية الرفيعة إلى جانبها.

أما الأوقاف ودار الإفتاء فقد ظل تتنافس كل منهما مع الأزهر بلا سقف. فضلاً عن أن مرجعيتها باتت محصورة في المؤسسة الأمنية. وفي الوقت الراهن فإننا نشهد توافقا بين وزارة الأوقاف ودار الإفتاء في مواجهة مشيخة الأزهر. وأكرر هنا أن المؤسسات الثلاثة لم تخرج من عباءة الأمن، إلا أن التنافس ظل دائراً حول موقع كل منهما تحت العباءة. إذ في حين ظلت الفتاوى شبه اليومية التي تصدر عن دار الإفتاء حاضرة إلى حد الذوبان في السياسة الأمنية. فوزارة الأوقاف أدركت أن مجال الدعوة ومنابر المساجد هي الساحة التي يمكن أن تزايد فيها على الأزهر وتسبقه فيها. وكان موضوع تعميم الخطبة المكتوبة من نماذج ذلك السباق الذي تفجر في العلن أخيراً. وما كان لذلك أن يحدث لولا أن الوزير الذي عمل في مكتب شيخ الأزهر قبل تقلده الوزارة، وجد مساندة أمنية قوية لموقفه جعلته يجهر بالتحدى ويتعامل باستعلاء مشهود مع قرار هيئة كبار العلماء في الموضوع. فضلاً أن رجاله عمدوا إلى التلويح للمعارضين بتهمة الأخونة، الأمر الذي يعد من قبيل البلاغ الأمني الذي يهدد بتدمير حياة المعارضين وإلقائهم وراء الشمس.

لم تكن المعركة لوجه الله ولا خدمة للدعوة أو لدور المساجد ورسالتها، ولكنها من قبيل الصراعات التي لا غالب فيها ولا مغلوب، لأن الجميع يخرجون منها مجروحين ومشوهين، وربما صاروا أصغر مما دخلوا فيها.

Exit mobile version