أبلغني أنه قد دعا بعض أصدقائه للإفطار في بيتنا بعد أيام، وقبل أن أجيب بشيء أخذ يعدد الأصناف التي يريد أن أعدها لهم، وكان كلما سكت تذكر صنفا آخر فأضافه إلى القائمة، كأنما يريد أن يتفاخر أمام أصدقائه بأن له زوجة تحسن الطهي، ولم ينس أصناف الحلويات، زادت القائمة حتى أشبهت قوائم المطاعم الكبيرة من حيث عدد الأصناف ومدى تنوعها، وزادت أيضا قائمة المدعوين.
وأخذت أعد العدة لليوم الموعود، وأجهز بعض الأطباق وأضعها في الفريزر وأخرى أعد لها ما يلزمها، وأنظر ماذا ينقصنا لنكمله من الأوعية والأدوات. واجتهدت في الإعداد، وهو يروح ويجيء ويعطي تعليماته، وأحيانا تحذيراته ويبدي مخاوفه.
لا تنسي المقبلات، الناس صائمون، هل أعددت للعصير، كم صنفا ستعملين من العصير؟ والشوربة، لا لا الناس من جنسيات مختلفة، وبعضهم لا يعرف الفريكة ولا العدس، أريد صنفا ثالثا، والسلطة، لا تكفي السلطة الخضراء، أريد أن تعملي سلطة الخيار باللبن، ولكن لا تكثري عليها من الثوم كما فعلت في المرة الماضية.
ــ يا لله هل يجب أن تذكرني في كل مرة بتلك المرة، هل أذكرك بأنه قد مضى عليها سنوات طويلة، ربما ثماني أو عشر سنوات؟ ولا زلت تعيرني بها منذ ذلك الوقت، ألم أتبع تلك السيئة بحسنة تمحوها؟ يا للرجال ! يأكلون وينكرون، قلتها وأنا أخلط الجد بالهزل تخلصا من الموقف وحتى لا أثير مشكلة جديدة أنا أغنى ما أكون عنها.
وجاء اليوم الموعود ووصلت نهاره بليله وأنا أعد الأصناف المطلوبة، وللحق فقد عرض عليّ المساعدة، ودخل معي المطبخ للمساعدة:
ــ كيف أقشر الباذنجان؟ لماذا تقطعين الجزر بهذه الطريقة، أخشى أن تكوني نسيت الملح، هل أنهيت الملفوف، وورق العنب، (مستدركا) : وشيخ المحشي هل هو جاهز، يا لله يبدو أنك نسيت السمبوسة، هل نسيتها؟ يا لله هذه فقط كمية الرز التي ستطبخينها؟ أقول لك لدينا بضعة عشر ضيفا من الرجال فقط وبعض النساء، ولا تنسي أنهم صائمون، إنهم صائمون، رباه ماذا أفعل؟ يبدو أن زوجتي ستسود وجهي اليوم أمام ضيوفي.
أشعرني كلامه بالإحباط، وقيد يديّ، أعلم أنهم صائمون، وقد حددت كمية من الطعام أظنها تكفي لأضعاف عدد المدعوين ومع ذلك فقد أوجست خيفة في نفسي، ولقد حدثتني نفسي إن أحسن مساعدة يمكنه أن يقدمها لي هي أن يخرج من المطبخ وربما من البيت كله، ويتركني أتفرغ لأشغالي.
قبل أن يوذن المغرب بدقائق، كانت السفرة جاهزة بما لذ وطاب، وكان شكلها وحده يفتح الشهية، ولولا عون الله تعالى وتوفيقه لم أكن لأستطيع إنهاء كل العمل في الوقت المناسب، شكرت الله كثيرا وخرجت من الغرفة، ودخل الضيوف بعدها وأخذوا أماكنهم وما أن أذن المغرب حتى تعالت أصواتهم وهم يخلطون الذكر بتناول الإفطار الشهي.
يا إلهي، أحقا هذه أنت؟! ألست أنت من كنت تدعين باستمرار للبساطة في المأكل وخاصة في رمضان؟ ألست من كنت تنكرين سعار التسوق قبيل رمضان وتقولين أهو شهر الصيام أم شهر الطعام؟ ثم ألست أنت التي كنت تنكرين المبالغة في طعام الولائم بينما غيرنا في بلاد مجاورة ربما لا يجدون ما يسد رمقهم؟!! أهذه أنت؟ كم تغيرت؟ ما الذي غيرك؟ ما الذي غيرك؟؟
كنت ألوم نفسي وأنا أعد سريعا سفرة مصغرة للنساء فلم تحضر سوى ضيفة واحدة فقط، لكن كان لا بد أن أضع من كل صنف طبقا، وما أن جلست للإفطار حتى توالت النداءات لشيء ولغير شيء، نحتاج إلى عدد آخر من الأكواب، وأطباق الحساء،
ــ لكني جهزت عددا كافيا من الأطباق والأكواب. أين ذهبتم بها؟
ــ ماذا أعمل؟ بعض المدعوين أرادوا أكثر من نوع من العصير أو الحساء أفأدعهم يسكبون في نفس الإناء مرتين؟ ذهبت للمطبخ لتدبر العدد المطلوب منها وأنا أقول أستغفر الله، كيف يستخدمون الإناء مرتين ما هذه البدعة؟
ــ هل وضعت الصابون على المغاسل، هل وضعت مناشف جديدة، هل هل هل؟ يا إلهي أصابني الصداع، لم أعد أحتمل،
اعتذرت لضيفتي أم طارق فقد اضطررت لتركها تفطر وحدها للرد على الطلبات، ثم لما خرجوا أخيرا للصلاة تذكرت أني ما زلت على صيامي لم أفطر بعد.
أحسست أن هذا اليوم مر كأنه عدة أيام، لكنه مضى على أية حال، وأخذت أعيد تنظيم البيت، واستغرقت في أعمال التنظيف في المطبخ مدة طويلة، وأنا أنظر إليه بين فينة وأخرى لعله يقول لي كلمة مدح أو ثناء وذهبت تلك النظرات سدى، لم أجد بدا من استجداء بعض كلمات الشكر فأنا فعلا في حاجة ماسة إليها. قلت : ها كيف كانت مأدبة الإفطار الليلة؟ قال : نعم كانت جيدة، لكن طبق الرز الأبيض كان ملحه قليلا بعض الشيء.
أحسست أني فقدت طاقتي، لا أستطيع حتى الاستمرار في ترتيب البيت، شعرت فجأة بإرهاق شديد، لم أستطع منع نفسي من الاعتراض، قلت في ألم : أهذه هي الملاحظة الوحيدة التي أستحق أن أسمعها بعد كل هذا التعب، حسبي الله ونعم الوكيل، طبق الرز ملحه قليل؟ ألا يعني هذا أن الأطباق الأخرى كانت ممتازة؟ نسيت كل الأشياء الناجحة ووقفت عند الطبق الذي ملحه (حسب رأيك) قليل بعض الشيء ، لي الله لي الله نعم المولى ونعم النصير.
بعد تلك الدعوة بأيام اتصلت بي معظم أزواج من حضر المأدبة يبلغنني ثناء أزواجهن على حسن الذوق وتنوع الأطباق ويشكرنني ويدعون لي بخير،ويسألنني عن بعض الأصناف وطريقة طهوها، كلمات رفعت من معنوياتي شيئا ما، لكنها كان سيكون لها وقع أبلغ لو جاءت من زوجي، الحمد لله على كل حال، هناك من قدر وشكر.
مرت فترة على تلك الدعوة، ثم اتصل أبو طارق يدعونا ــ زوجي وأنا ــ لتناول الإفطار في بيتهم، رددت أنا على الهاتف، فشكر كثيرا وأثنى على ما قدمنا واعتذر مقدما أنه لن يكون في مقدورهم تقديم طعام مماثل، وألمح إلى أننا بالغنا في ذلك، (أعلم أننا بالغنا ولكن مكره أخاك لا بطل)، لم أكن أحب تناول الإفطار في غير بيتنا لكن أم طارق اتصلت أيضا تؤكد الدعوة وكان لا بد أن أجيب دعوتها، على الأقل من باب المعاملة بالمثل، ذهبنا قبيل الإفطار، وأعدت لنا أم طارق مأدبة إفطار جيدة لكنها بالنسبة لما قدمناه تعتبر متواضعة جدا، طبق من الرز البخاري وآخر من المكرونة وثالث من السلطة الخضراء وطبق واحد من الحلويات البسيطة، دعتنا أم طارق للطعام وهي تعتذر لأنها لا تستطيع إعداد سفرة مثل التي عملتها، وأكدت أنها لم تنس طعم ما أكلت عندنا، قلت في نفسي : غيرك قد نسي كل شيء، وبعد صلاة التراويح خرجنا من بيتهم، وما أن ركبت السيارة حتى بادرني قائلا : ما رأيك بالرز الذي أعدته أم طارق؟ قلت : كان لذيذا فعلا، فقال في طرب : ما ذقت في حياتي كلها رزا مثل رز أم طارق، ما أطيب ذلك الرز ! هل أخذت منها طريقة إعداده؟