بدأ التدمير لحضارة الشرق مع مجيء المستشرقين “المنقبين عن الآثار”، وقد جاء هؤلاء بأذهان توراتية، وأثناء بحثهم وتنقيبهم في المنطقة العربية كانوا يبحثون عمّا يتوافق مع خريطتهم الذهنية التوراتية، وعندما كانوا لا يجدون تلك الخارطة المفترضة يعمدون إلى تجاهل كلّ شيء لا يمت بصلة إلى التوراة، وأدّى بهم ذلك إلى “خيانة الترجمة” حتّى إنّهم عمدوا في ترجمتهم لإحدى الرُقُم الأثرية التي تضع الحدود بين قطعتي أرض لمزارعَين في رأس شمرا “أوغاريت” التي خرجت منها أول أبجدية في التاريخ، بأنّها حدود دولة “إسرائيل”!
وكان لـ”اللغة” التي استخدموها في الترجمة “اللغة العبرية” الأثر الكبير في لي عنق الكلمات وتفسيرها وخيانتهم المتعمدة للتاريخ الذي أرادوا أن يكرسوه بإثبات أنّ حدود “إسرائيل” من الفرات إلى النيل، لكنّهم فشلوا في إثبات أيٍّ من حقائق التوراة التي يسلّمون بوجودها.
استمر غزو المستشرقين للمدن والحضارات العربية عقوداً طويلة، نقّبوا عن الآثار، وسرقوا معظمها، ووضعوا أيديهم على كنوز الشرق الذي ألهب مخيلتهم حدّ شعورهم بعقدة تجاه عظمة حضارته وتطور علومه وفكره وغرابة أسراره وبيئته، تزامن ذلك مع حملات عسكرية غزت الشرق ودمرت وقتلت ونهبت، انتهى الاحتلال لكنّ السيطرة على موارد الشرق وحضارته لم تنتهِ.
على مستوى العمران والأدب، كان كتاب “ألف ليلة وليلة” ملهماً للغرب، في الأدب والسينما، نرى ذلك جلياً في رواية “الخيميائي” للروائي القاص البرازيلي باولو كويلو، رسول السلام من الأمم المتحدة، على الرغم من تصريحه أنّه أخذ حبكة الرواية من قصة “حكاية حالمين” للكاتب الأرجنتيني بورخيس، لكن هذا لا ينفي تأثره وتأثر بورخيس ومعظم الكتّاب في الغرب بمنبع الحكايات “ألف ليلة وليلة”.
وعلى مستوى الاختراعات العلمية، فقد تحولت أفكار كتاب “ألف ليلة وليلة” الخيالية مثل “البساط الطائر” الذي ركبه السندباد، إلى واقع، بينما بقيت أفكار عباس بن فرناس وشخصيته في كتبنا المدرسية للتندر بشخص حاول أن يخالف نواميس الطبيعة بمحاولته الطيران! وعلى الرغم من المخيلة الخصبة للمؤلف المختلف عليه، لم يحاول العرب تطبيق تلك الأفكار بشكل علمي، بينما أخذ الأخوين رايت فكرة الطيران على محمل الجد، وحوّلا الفكرة المستحيلة إلى واقع وطارا!
كثيرة الأفكار والتخيلات التي جاءت في هذا الكتّاب المثير فعلاً في تاريخ الأدب العربي، منها وقوف علي بابا أمام الصخرة ومناداته: “افتح يا سمسم”! كم من الاختراعات كانت موجودة في ذلك الكتاب على أنّها محض خيال لا يمكن أن يكون في الواقع، لكنّها أصبحت واقعاً عند الشعوب التي تستخدم العلم لتحقق ما تصبو إليه المخيلة.
ذلك الغرام بالتاريخ وسحر الشرق الأسطوري أوجد كتاباً فذا وعبقرياً أرّخ للعالم هو كتاب “قصة الحضارة لـ ول ديورانت، يقول ديورانت في كتابه: لا يمكن احتلال حضارة عظيمة من قبل قوة خارجية إذا لم تدمر نفسها من الداخل.
ومن الطبيعي ألا تقوم أيّ حضارة بتدمير نفسها فذلك مخالف للمنطق؛ لذا كان على الغرب أن يفكّر بوسيلة هدم داخلي لتلك الحضارات التي سحرته على مدى قرون فأوجد فيها من يقوم بتلك المهمة الشائكة التي تحتاج إلى هدم الإنساني، وتغيير المنظومة الأخلاقية، ودس البدع، وتشويه العقائد؛ كي يقضي أبناء الحضارة على حضارتهم وهم على قناعة بأنّهم يجتثون شراً وبدعة.
كما حدث من تخريب للآثار من قبل “داعش” بزعمهم أنّهم يحطّمون “أصناماً”، هذا إن سلّمنا بأنّ “داعش” تنظيماً إسلامياً فعلاً، فنحن (في سورية) على يقين أنّ “الدواعش” لا ينتمون إلى الإسلام، وأنّهم لمامة من أصقاع الأرض ومن طوائف ومذاهب وأديان مختلفة، وذلك ثابت من وجود شخصيات قيادية تنتمي للمخابرات السورية، بالإضافة إلى وجود مقاتلين من كلِّ أصقاع الأرض هناك.
تدمير سحر الشرق
شبع الغرب من سحر الشرق، وأجمعوا على تدميره، كان العراق وجهتهم الأولى، فبغداد عاصمة هارون الرشيد الشخصية الأكثر سحراً والتي كانت محوراً رئيساً لكثير من الحكايات في كتاب “ألف ليلة وليلة”، بغداد ساحرة من نوع خاص أتخم الغرب من سحرها وعجز عن الحد من ذلك السحر ورغب في سرقة كنوزها الطبيعية والفنية فأدى دوراً مهماً في تدميرها من الداخل بأن وضع في الحكم من يفسد فيها ويكون سبباً مباشراً في دمارها.
وقد يرى بعض “القَدريين” أنّ الإرادة في إبادة تلك الحضارات لا ترجع إلى الغرب الكافر؛ لأنّها إرادة الله كما جاء في قوله تعالى في (الآية 16) من سورة “الإسراء”: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً {16})، هؤلاء يهربون من الواقع كالنعامة التي تخفي رأسها في الرمال وهي تظنّ أنّ لا أحد يراها، فالله سبحانه لن يتجلّى لهؤلاء الفاسقين ويأمرهم بأن يفسدوا في الأرض إنّما يُهيّئ لهم من يقوم بإملاء ذلك عليهم، وكلّهم من “أولي الأمر” الذين وجبت طاعاتهم وعدم مخالفتهم في قرار يتخذونه، فكان سهلاً أن يوجد شخص مثل صدام على رأس دولة كالعراق، وشخص مثل حافظ الأسد في سورية، ومبارك في مصر، وخلفهم من بعدهم من فاقهم شرّاً فقاموا بتدمير حقيقي وممنهج لأعظم دول الشرق مصر والعراق وسورية.
المصدر: موقع “الجزيرة مباشر”.