“أوبسارفتور”: 100 عام على اتفاقية “سايكس بيكو”: “لقد اخترعوا سلاماً يشبه الحرب”

يروي المؤرخ جيمس بار تدخل فرنسا وإنجلترا في الشرق الأوسط منذ سنة 1916م، كما حلّل تقسيم الحدود في تلك الفترة، وتأثيرها على الصراعات الحالية.

وقد حلّل كتاب “خط في الرمال”، الذي نُشر سنة 2011م، العلاقات بين فرنسا وإنجلترا، وتأثيرها على قضية الشرق الأوسط، حيث فسّر هذا الكتاب العديد من المواضيع الشائكة والمهمة والتي مثلت مصدر الفوضى الحالية، وسبب هذا الصراع التاريخي المستمر.

وفي هذا السياق، قام الصحفي الفرنسي فرانسوا فوريستير، من صحيفة “نوفيل أوبسارفتور” بإجراء مقابلة مع الكاتب جيمس بار لمناقشة كل المحاور التي تطرق لها هذا الكتاب.

ما اتفاقية “سايكس بيكو”؟

اتفاقية “سايكس بيكو” هي صفقة سرية أُبرمت سنة 1916م، أثناء الحرب العالمية الأولى بين بريطانيا العظمى وفرنسا، بموافقة روسيا على تفكيك الإمبراطورية العثمانية والتشارك في تقسيم غنائم الإمبراطورية العثمانية، وكان يُمثل بريطانيا في ذلك الوقت عضو البرلمان المحافظ، مارك سايكس، أما فرنسا فكان يمثلها الدبلوماسي فرانسوا جورج بيكو، وبدلاً من اتباع خطى والده، فضّل فرانسوا جورج بيكو الانضمام إلى وزارة الخارجية الفرنسية سنة 1898م، وهي نفس السنة التي وقعت فيها حادثة “الفشودة” بين كلّ من المملكة البريطانية وفرنسا، وخلال تلك الفترة أصبح جورج بيكو مُفاوضاً صعب المراس وقاسياً؛ ما دفعه لاقترح أن يتم تقسيم منطقة الشرق الأوسط إلى قسمين.

هل نفهم من ذلك أن المنطقتين أصبحتا تتمتعان بالنفوذ؟

نسبياً؛ حيث إن فرنسا حظيت بالمنطقة الشمالية، أما بريطانيا فسيطرت على المنطقة الجنوبية، ولكن ضمن هذين المجالين، كانت هناك مناطق مثل لبنان والشريط الساحلي لسورية تحت السيطرة المباشرة للإدارة الفرنسية، في حين أن بقية “المنطقة العربية” مثل؛ دمشق وحلب والموصل كانت “منطقة نفوذ”، أما المنطقة البريطانية، فكانت تشمل عكا، والكويت وبلاد ما بين النهرين، كما تم الاتفاق على أن جنوب سورية والأردن وفلسطين سيخضعون للإدارة الدولية إضافة إلى ميناء حيفا وعكا والقدس، في المقابل، خضعت مدن مثل البصرة وبغداد إلى سيطرة بريطانيا.

هل كان هناك معيار منطقي وراء هذا التقسيم؟

لا أعتقد أن هذا التقسيم كان منطقياً، وكما يذكره عنوان كتابي هو مجرد “خط في الرمال”، ولكن هذا لا ينفي وجود منطق سياسي، حيث كانت بريطانيا تهدف إلى منع فرنسا من الوصول إلى المدن المقدسة، مثل مكة المكرمة والمدينة المنورة، وكانت ترغب في أن تصبح أعظم قوة في العالم الإسلامي نظراً لتواجد عدد كبير من المسلمين داخل الإمبراطورية البريطانية إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مصر والسودان والهند، في المقابل، كانت توجد نسبة كبيرة من المسلمين في فرنسا أيضاً، لذلك كانت شبه واثقة من السيطرة على أراضي دمشق والمناطق المحيطة بها.

لذلك، أراد البريطانيون إنشاء شريط حاجز يمتد من البحر الأبيض المتوسط ​​إلى الخليج الفارسي وإبعاد فرنسا عما يعرف الآن بالمملكة العربية السعودية، والبحر الأحمر والخليج الفارسي، وكانت هذه المنطقة ممراً للهند، وهي معقل مهم للإمبراطورية البريطانية، كما أنه لطالما اعتُبر هذا الجدار الفاصل ليس عقلانياً بل مُجرد فكرة مبسطة، و”خطاً من الرمال” يُلغي تواجد العديد من الأراضي القبلية، والأنهار، وقنوات الاتصال والجغرافيا الحدودية.

لكن هل تغيرت بعض الأمور بعد هذا الاتفاق؟

في وقت لاحق، أدركت بريطانيا أن هناك ثروات كبيرة من النفط في شمال هذا الخط الوهمي، حيث إنه في نهاية الحرب العالمية الأولى، شكلت هذه الثروات بؤرة الصراع، حتى إن البريطانيين كانوا قد هددوا باندلاع حرب عالمية أخرى، إذا لم يتم إعادة التفاوض في هذا الشأن، وكان من الضروري أن تضمن بريطانيا مصادر إمدادات النفط آنذاك، خاصة في العراق، وبعد الحرب، اجتمع رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج بالرئيس الفرنسي جورج بنجامين كليمنصو، في ديسمبر سنة 1919م، واستؤنفت المفاوضات؛ فعرض كليمنصو على لويد جورج استرداد الألزاس واللورين، مقابل إعطائهم الموصل وكامل فلسطين، وهذا يبيّن أن الشرق الأوسط لم يكن مهماً جداً لكليمنصو، وأن لويد جورج  كانت لديه نزعة دينية، خاصة وأنه يُولي الأماكن المقدسة اهتماماً كبيراً.

إذاً هل يمكننا القول: إن العامل الديني أدى دوراً مهماً بين سايكس وبيكو؟

بالتأكيد، لأنه معروف عن الفرنسيين بأنهم كانوا حماة الأماكن المقدسة، أما بالنسبة لبعض الإنجليز، مثل سايكس، كانت بالنسبة لهم هذه المنطقة تضمّ “البرابرة”.

إذاً هل يمكننا أن نقول: إن كل المشكلات الحالية تنبع من هذا التقسيم الأوروبي القديم للشرق الأوسط؟

ليس هذا هو السبب الوحيد، ولكن اتفاقية “سايكس بيكو” هي واحدة من الأسباب الرئيسة لحالة الفوضى الحالية، حيث لم يتمكن كل من سايكس وبيكو من الاتفاق على مستقبل فلسطين، فالدبلوماسي البريطاني سايكس أراد هذا الإقليم لأسباب إستراتيجية، أما الدبلوماسي الفرنسي جورج بيكو كانت له أسباب دينية وتاريخية وراء تمسكه بموقفه.

وماذا عن اليهود؟

بعد توقيع تلك الاتفاقية، اتصل البريطانيون على الفور بالصهاينة، لمساعدتهم على نقض الاتفاقية، وتجدر الإشارة إلى أن الإمبريالية كانت تتعرض لنقد لاذع من جانب الولايات المتحدة، وأراد الإنجليز وقف هذا التدخل الأمريكي، عن طريق التقرب من الصهاينة، واعدين إياهم بمنحهم فلسطين ليلعنوا فيها قيام دولة يهودية، ما دفع إلى أن تكون فلسطين طموح كل من فرنسا وأمريكا، ومن هنا جاء “وعد بلفور”، خلال الثاني من نوفمبر 1917م الذي نصّ على “أن حكومة صاحب الجلالة تعتزم تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين..”.

وهل كانت سورية محلّ نزاع بينهما بسبب فراغ السلطة وجرائم الاغتيال المتعددة والفوضى حيث يكاد يكون الوضع متشابهاً لما هو عليه اليوم؟

من الناحية التاريخية، سورية لطالما كانت دولة غير مستقرة، باستثناء فترة حكم عائلة الأسد، وكانت تمثل دائماً ساحة القتال بين القوى العظمى، ففي سنة 1957م، حاول الإنجليز والأمريكيون التخلص من الحكومة السورية، الموالية للاتحاد السوفييتي، لتحلّ محلها عصابة من اليمين بدعم من العراقيين، والغريب، هو أن النفط لم يكن أحد أسباب الصراع، بل الموقع الإستراتيجي لهذا البلد والذي يوجد في مفترق طرق بين مختلف البلدان وجميع الأمم، هو ما جعله مستهدفاً.

وبذلك يمكن أن نعتبر أنه لم يتغير شيء في هذه المنطقة منذ سنة 1916م إلى اليوم؟

لا، التاريخ لا يتكرر بحذافيره، فاليوم يوجد “الإرهاب الإسلامي”، أو العربي المزعوم الذي كان موجوداً أيضاً في الثلاثينيات، ولكن كان هناك أيضاً الإرهاب الصهيوني في الأربعينيات الذي كان لا يُقهر أبداً.

نعم، ولكن الإرهاب الصهيوني كان رداً على إستراتيجية واضحة، تهدف لضرب مراكز قوته، لكن الإرهاب الحالي هو أعمى.

أجل كان للإرهابيين الصهاينة أهداف واضحة وأفكار محددة، ولقد تحصلوا في نهاية المطاف على ما أرادوا، ونظراً للاضطرابات التي يشهدها العالم العربي، وضعت حكومة صاحب الجلالة إجراءات صارمة للهجرة اليهودية، فقامت بحظر وصول اليهود إلى أوروبا الوسطى سنة 1939م.

وماذا عن اكتشافك أن الحكومة الفرنسية أرسلت أسلحة سرّاً إلى الصهاينة بعد الحرب العالمية الثانية؟

كان الهدف من إرسال فرنسا أسلحة للصهاينة هو طرد البريطانيين من فلسطين، وذلك بسبب توتر العلاقات بينهما، حيث أظهرت بعض الملفات التاريخية الإنجليزية مؤخراً أن هذه الشحنات من الأسلحة كانت مهمة وكبيرة، وبسبب هذه الخطوة التي اتخذتها فرنسا، استمر الصراع الكامن بين البلدين منذ اتفاقية “سايكس بيكو”، وقد انتقم الفرنسيون للإهانات التي تعرّضوا لها من الإنجليز في المستعمرات، خصوصاً في بيروت ودمشق، خلال الحرب، كما لم تتوانَ فرنسا الفاشية عن تقديم دعمها لعصابة شتيرن الصهيونية، ضد الإنجليز.

وفي سنة 1948م، بدأت فرنسا في تقديم العديد من الأسلحة لليهود، ولهذا يمكننا القول: إن الجمهورية الفرنسية كانت متورطة بشكل كبير في إنشاء دولة “إسرائيل”، ودعونا نضيف أن معاملة الجنرال البريطاني إدوارد سبيرز السيئة لشارل ديجول في بلاد الشام مثّلت الدافع وراء انتقام فرنسا.

وبالتالي يمكن أن نقول: إن حالة الفوضى والاضطراب التي جاءت بها اتفاقية “سايكس بيكو” كانت فرصة ذهبية للمفتي الحسيني؟

تعتبر قضية المفتي الحسيني، الذي أسس اللجنة العربية العليا، مثيرة للاهتمام؛ حيث قام هذا الأخير بتشريك النازيين في اللعبة التي دارت في الشرق الأوسط، وبطبيعة الحال، هدفهم كان القضاء على اليهود للسيطرة على حقول النفط في البحر الأسود، وحرمان البحرية الإنجليزية من موارد النفط، ومساندة الهند، التي كانت محتلة من قبل اليابانيين، ولحسن الحظ، لم تتحقق هذه الخطة وإلا لكان العالم شهد كارثة بكل المقاييس.

إذاً هل كانت اتفاقية “سايكس بيكو” بداية لتدهور الإمبراطوريات؟

دامت الحرب من سنة 1914 إلى 1918م، تم القضاء خلالها على ثلاث إمبراطوريات؛ الإمبراطورية الروسية، والإمبراطورية العثمانية، والإمبراطورية البروسية، فضلاً عن تمهيدها لبداية نهاية الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية، كما كانت اتفاقية “سايكس بيكو” محطّ ازدراء خاصة بالنسبة للشعوب المعنية بالتقسيم حيث تمّ إنشاء مناطق النفوذ دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح الناس، كما قامت بخلق حدود كانت ولا تزال مصدراً للصراع بين الدول.

وأود أن أضيف أن خبرة وقوة ودبلوماسية جورج بيكو مقابل غطرسة مارك سايكس، خلقت مناخاً ملائماً لعدم محاولة أي طرف منهما إرضاء الآخر، كما اخترعا من خلال هذه الاتفاقية سلاماً يشبه الحرب.

 

المصدر:

http://tempsreel.nouvelobs.com/monde/20160516.OBS0606/100-ans-des-accords-sykes-picot-ils-ont-invente-une-paix-qui-ressemble-a-la-guerre.html?xtor=RSS-14

Exit mobile version