“عملية العمر”.. انتهاء رهان المصالحة الوطنية بأفغانستان

يبدو أن حركة “طالبان” أفغانستان قد قررت تنفيذ تهديداتها وعدم بقائها مهمشة إلى الأبد، وقررت أن تكون الرقم الأول والمعادلة الصعبة في الأزمة الأفغانية اليوم.

ويظهر هذا بكل وضوح في إعلانها بحلول موسم “الربيع” في أفغانستان في منتصف شهر أبريل من كل عام عن الشروع في عملية عسكرية هي الأعنف والأضخم من نوعها، وأطلقت عليها اسم “عملية العمر” أو “العمرية”، وهي تيمناً باسم قائدها ومؤسسها الملا محمد عمر مجاهد.

وأعلنت حركة “طالبان” أنها قررت أن تستخدم أقسى ما لديها من قوة من أجل إسقاط الحكومة العملية للغرب وتأسيس حكم خاص بالأفغان.

ولم تتأخر “طالبان” من تهديداتها ووعودها فأخذت في أول ظهور علني لها وفي أول عملية تشنها باسم عملية العمر من تفجير مقر المخابرات الأفغانية في العاصمة كابول، وتستهدف اجتماعاً لضباط المخابرات كان منعقداً في المنطقة ساعة الهجوم بسيارة ملغمة، والذي أسفر عن مقتل 30 شخصاً وإصابة أكثر من 300 آخرين وتدمير كبير للممتلكات والسيارات والبيوت المجاورة.

ووصف الأفغان هذا الهجوم بأنه الأعنف من نوعه منذ سنوات طوال في العاصمة كابول، وهو ما سيعيد القلق إلى الأمريكيين والحكومة الأفغانية بأن هناك مرحلة خطيرة وحساسة قد دخلت إليها أفغانستان تنفي ما قيل من سيطرة على الأوضاع أو أن هناك مؤشرات على تراجع العمل المسلح والهجمات المسلحة.

وتؤكد هذه العملية الضخمة أن الرهان على المصالحة الوطنية في أفغانستان بات من الماضي، وأن الجهود السابقة كانت مضيعة للوقت لا غير. 

أسباب لجوء “طالبان” إلى خيار القوة بدل الحوار؟

وكانت حركة “طالبان” بقيادة الملا أختر منصور قد وافقت على دعوة قمة أفغانستان التي انعقدت في العاصمة الباكستانية إسلام آباد في 15 ديسمبر 2015م إلى استئناف المفاوضات، وشكلت لجنة مكونة من 4 دول لتتابع مسار الحوار الأفغاني، وطالبت الأطراف المتنازعة العودة إلى طاولة المفاوضات.

1- اعتبرت “طالبان” المفاوضات مضيعة للوقت:

حيث علق عليها قادة “طالبان” بأنها خالية وفارغة ولا تتسم بالجدية والصدق، ودليلهم هو أنهم قدموا قبل الدخول فيها شروطهم وطالبوا بتحقيقها وأبرزها الإفراج عن رفاقهم ووقف العمليات العسكرية ضدهم، ورفع أسمائهم من قائمة الممنوعين والإرهاب الدولي، إلى جانب سحب القوات الأجنبية جميعها من أفغانستان.

وتقول “طالبان”: إن مطالبها لاقت الإهمال وعدم الاهتمام، وجرى التعامل معها كمجموعة عليها فقط الاستسلام للأمر الواقع والرضوخ لمطالب أمريكا ودول الجوار.

2- الحكومة الأفغانية لا تملك قرارها:

 وهو ما كان واضحاً؛ إذ إن المفاوضات التي دارت لأول مرة بين الحكومة و”طالبان” في منتجع مري السياحي بالقرب من العاصمة إسلام آباد في يوليو 2015م، ثم جولات الحوار التي دارت بين الدول الأربعة بين شهر يناير ومارس 2016م التي كانت تتشاور من أجل إنجاح عملية الحوار، جميعها أظهرت أن حكومة أفغانستان ما زالت خارجة عن السرب وتغرد خارجه، ولا تملك أي أجندة لتقدمها إلى خصومها من “طالبان” حتى تقنعهم بالمفاوضات وبجدية الموقف، وتركت مطالب “طالبان” وشروطها للأمريكيين ليردوا عليها ويعطوا رأيهم فيها دون أن تمتلك حكومة أشرف غني الشجاعة الكافية للرد في الوقت والمكان المناسبين، وهو ما أفقدها الهيبة بين الأفغان من جهة، ومقاتلي “طالبان” من جهة أخرى.

ويبدو أن رهانات حكومة أشرف غني كانت قائمة على دور باكستاني ما للضغط على “طالبان”، وقائمة على إمكانية أن تنشق الحركة وتتحول إلى مجموعات متناحرة مع بعضها بعضاً، لكن لا هذا حدث ولا ذاك، وأُنهي الحوار.

3- باكستان لم تلبّ مطالبها حتى تمارس ضغوطها على الحركة:

وهو ما بات واضحاً؛ إذ كيف يمكن لباكستان أن تضغط على “شبكة حقاني” أو “شورى طالبان” أو الفصائل الموالية لها والتي تستخدم أراضيها لشن هجماتها أو تستخدم باكستان كحديقة خلفية أو قاعدة لوجستية وهي تتعرض لهجمات إرهابية دموية تستهدف المدنيين العزل وأطفال المدارس وطلاب الجامعات.

وباتت أفغانستان حديقة خلفية للمجموعات الإرهابية التي تخطط لتدمير باكستان، وتفجير حرب أهلية فيها، والقضاء على وحدتها واستقرارها، ولعل أشهرهم حركة “طالبان باكستان” بقيادة الملا فضل الله، و”جماعة الأحرار” بقيادة خالد عمر خراساني المتورطين في قتل مئات المدنيين العزل في باكستان ومئات الطلاب والتلاميذ داخل مدارسهم وجامعاتهم.

وتحولت أفغانستان قاعدة لوجستية مهمة تستخدمها الهند للنيل من تماسكها ووحدتها، وباتت مقراً لقيادة حراك انفصالي في بلوشستان، وكل هذا يجري تحت سمع وبصر حكومة أشرف غني والقوات الأمريكية المتواجدة في المنطقة.

فما الداعي الذي سيشجع الباكستانيين من حكومة وجيش ومخابرات ووسائل إعلام حتى يتحركوا للضغط على “طالبان” وعلى فصائلها المختلفة، ويخيرونهم بين الدخول في جهود السلام أو القبض عليهم وطردهم من باكستان وتجميد ممتلكاتهم إن وجدت، واعتبارهم أشخاصاً خارجين عن القانون، ويقول الباكستانيون: إنه لم يحدث شيء على الأرض حتى يتشجعوا ويقوموا بدورهم.

4- القوات الأمريكية غير جادة في إنهاء الأزمة:

ويأتي هذا الأمر ليؤكد أنه لو تمتع الأمريكيون بقليل من الصدق والإخلاص والواقعية لكان الوضع في أفغانستان قد انفرج، وتمكنت أفغانستان من الخروج من عنق الزجاجة، وتم الإعلان عن نجاح المصالحة الوطنية في أفغانستان، وتشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة انتقالية، لكنهم بما أنهم ليسوا جادين ولا صادقين في إنهاء الأزمة، ويريدون أن يُبقوا على الوضع كما هو، ويظهروا فقط بأنهم كسبوا الحرب في أفغانستان وأدمجوا “طالبان” في العملية السياسية.

وبهذا المنطق أفشلوا جميع فرص السلام في أفغانستان، وعرقلوا محاولة مهمة لتحقيق الاستقرار وعودة الأمن إليها كانت وشيكة بعد انسحاب القوات الدولية جميعها من أفغانستان عند نهاية عام 2014م.

وبدلاً من أن يقدموا دعمهم للجهود السلمية عززوا قوتهم في أفغانستان، ويعيدون نشرها في معاقل “طالبان”، وتقديم مزيد من الدعم العسكري للقوات الحكومية حتى تواصل المعارك ضد “طالبان”، فهم من جهة يتحدثون عن الحوار والمصالحة والسلام، ومن جهة أخرى يغذُّون الصراع، ويقدمون الدعم لفصائل غير رسمية لمحاربة “طالبان” بتوزيع السلاح على ما يسمى مليشيات “الصحوات الأفغانية”، ومجموعات إثنية وعرقية، وهدفهم تفجير النسيج الأفغاني، وخلط الأوراق؛ حتى تبقى أفغانستان بؤرة متوترة لا يتأثر بها الأفغان وحدهم، بل تتأثر بها حتى دول الجوار وأهمها باكستان والصين وإيران وجمهوريات آسيا الوسطى.

بل ذهبوا أبعد من ذلك حينما ركزوا في غاراتهم الجوية على معاقل “طالبان”، وشنوا ضربات خجولة ضد معاقل “داعش” في شرق أفغانستان؛ وهو ما يوحي بأن مخططهم هو جعل أفغانستان موزعة عسكرياً على “طالبان” و”داعش” والقوات الحكومية، وهو نفس الوضع المعمول به في سورية تقريباً؛ وهو ما يعني أنهم يريدون حرب استنزاف يضعف فيها الجميع حتى يتمكنوا من البقاء في أفغانستان ومواصلة سيطرتهم عليها لا غير.

وستبقى أفغانستان تنزف دماً بسبب البيئة التي لا تشجع على نجاح الحوار فيها، ولا تشجع على عودة السلام إليها، فما دامت حكومة أشرف غني لا تمتلك أي صلاحيات للدخول في حوار جاد وحقيقي مع “طالبان”، ولا تستطيع أن تعطي رأيها دون العودة إلى الأمريكيين إزاء “طالبان”؛ فستبقى أفغانستان تواجه القلاقل وتنزف الدماء.

وستبقى باكستان مترددة وغير مكثرة بإعطاء المفاوضات دفعة قوية وهي تتعرض لهجمات إرهابية وتهديدات تستهدف وحدتها انطلاقاً من أفغانستان دون أن تحاول الحكومة فيها منعها والسيطرة عليها.

وبين هذا وذاك سيستمر القتل في أفغانستان، وستواصل “طالبان” الدفاع عن مشروعها وعن حقها في أن تحكم أفغانستان، وتعلن فيها دولة إسلامية تحتكم إلى الشريعة، ويبدو أنها سترضخ لأي محاولات للضغط عليها من أي جهة كانت، خاصة بعد أن تمكنت من لم شملها وتوحيد صفوفها وإعادة الفصائل جميعها إلى بيت الطاعة؛ وبالتالي فلم يعد هناك ما يقلقها أو يظهرها على أنها متناحرة وممزقة، وستشجعها هذه الوحدة على التصعيد من عملياتها وممارسة ضغوط كبيرة على كل من الأمريكيين والحكومة الأفغانية لجعلهم يقبلون بالأمر الواقع، والدخول في مفاوضات تكون “طالبان” هي من تحددها وتوجهها وترسمها وليس غيرها.

ويتوقع بعد عملية الهجوم على مقر المخابرات في كابول أن تتكرر العمليات المشابهة في الفترة القادمة، يغيب فيها العقل، وتكون فيها الغلبة فقط لمنطق السلاح والقوة.

Exit mobile version