“أوغلو” الذي جعل للصفر قيمة

 

حقق حزب العدالة والتنمية بنتائج الانتخابات التي جرت منذ أيام ما يعرف في السياسة بـ”النموذج”؛ لأن ما حدث في هذه الانتخابات هو نتاج حركة فعل لنظرية، اعتمد على رؤية ومنظور حضاري قيمي، ربما هو الوحيد الذي أتيح له أن يدخل حيز التنفيذ بوصول العدالة والتنمية للحكم منذ عشر سنوات، وعلى ما يبدو أن كلمة السر في هذا النموذج هو أستاذ العلوم السياسية أحمد داود أوغلو.

الصفر في وزن الأعداد لا شيء، وفي وزن المقادير والضبط هو رمانة الميزان، فتخيل الواحد بدون الصفر لن يكون عشرة، والاثنان لن تكون عشرين.. وهكذا، وعلى ما يبدو فإن رئيس وزراء تركيا الحالي، وواضع ملامح السياسة وحركة الفعل لحزب العدالة والتنمية، أحمد داود أوغلو، قد عرف قيمة الصفر؛ لذلك جعله الرقم الذي حلَّ مشكلات تركيا، وبنى نهضتها، وجعل من حزب العدالة والتنمية المتربع على عرش السلطة لعشر سنوات، تم التجديد لها مؤخراً.

في الوقت المناسب

من أهم الأمور التي يهتم بها أصحاب القرار هو الوقت، خاصة في ظل عالم متسارع وأحداث متتالية؛ مما يجعل الوقت المناسب كلمة لها وزنها في نجاح أي حزب سياسي، وخاصة إن كان على رأس السلطة، وعلى ما يبدو فقد نجح مهندس العدالة والتنمية ورئيس وزراء تركيا الحالي أوغلو في حسن إدارة الوقت في اتخاذ القرار، فكان هو الرجل المناسب دوماً.

في عام 2002م جاء الحزب إلى الساحة السياسية محملاً بجبال من المشكلات داخلياً وخارجياً، جاء الحزب وهو مكبل بواقع لا يقبل بأن يحيد الحزب عن مبادئ أوصلت تركيا للاستدانة، ومعدل دخل لا يتجاوز 2000 دولار للفرد، ومستوى اقتصادي متدهور، وجيش وقضاء يتحكمان في المشهد، لدرجة إسقاط حكومات منتخبة – أربكان نموذجاً – لمجرد أنها حادت عن علمانية الدولة.

الصراع الكردي التركي على أشده، والدولة تلهث خلف عضوية الاتحاد الأوربي، والأخير يناور ويتشدد ويماطل ولا يقبل، فتركيا رهان خاسر بالنسبة له، فهي لا تملك شيئاً.

هنا وضع الرجل عنواناً لنظرية الفعل “إننا نريد مشكلات صفر”، ويقول أوغلو: «السلام مهم لتركيا؛ لأنه يسمح لها بإظهار نجاحاتها الاقتصادية وتوسيعها»، إنه رجل جاء ليحمل السلام في جيبه من أجل أن تكون تركيا قادرة على الحرب إن فُرضت عليها، وهي رؤيته التي قام على تنفيذها منذ أن انضم للحزب في بداية عام 2002م، ليصبح بعدها كبير مستشاري السياسة الخارجية للرئيس رجب طيب أردوغان.

حروب أديرت بسلام

نجح أوغلو في أن يقدم الحلول لكل ما كان كالجبل على كاهل العدالة والتنمية، وقد تناغم أعضاء الحزب وكوادره وقياداته في تحقيق نظرية الرجل، ففي الداخل وصل الحزب مع الأكراد وجناحهم المسلح “حزب العمل الكردستاني” لصيغة خففت تدريجياً من العنف الذي كان يؤرق المشهد التركي، حتى اندمج الحزب بشكل أو بآخر في العملية السياسية.

وفي الداخل أيضاً؛ قدم الرجل وصفة استوعبت الواقع الذي كان موجوداً بفرض وسيطرة وهيمنة العلمانية، ليتدرج الأمر ويعيد الرجل مع حزبه الأتراك إلى مضمار التاريخ والحضارة بالعودة إلى الجذور، حيث يبدأ الحزب تدريجياً في التأكيد على احترام علمانية الدولة، والتي تهتم بالحريات وإتاحة المجال دون تمييز، ثم يبدأ في تهيئة المجتمع للعودة لجذور تاريخية مرتبطة بالإرث العثماني، وأيضاً ضمن المعادلة الصفرية في المشكلات، فقد طرق الرجل باب الشعب من خلال الكرامة والعزة والحنين إلى الإرث الإمبراطوري، فاستطاع أن يجد الحزب بهذه السياسة متسعاً في نفوس الشعب، وقد لخص الرجل هذه الرؤية في أحد لقاءاته، وكان وزيراً للخارجية عام 2009م عندما رد على الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي قائلاً: “إن لدينا ميراثاً آل إلينا من الدولة العثمانية، إنهم يقولون: هم العثمانيون الجدد، نعم نحن العثمانيون الجدد، ونجد أنفسنا ملزمين بالاهتمام بالدول الواقعة في منطقتنا، نحن ننفتح على العالم كله، حتى في شمال أفريقيا، والدول العظمى تتابعنا بدهشة وتعجب، وخاصة فرنسا التي تفتش وراءنا لتعلم لماذا ننفتح على شمال أفريقيا، لقد أعطيت أوامري إلى الخارجية التركية بأن يجد ساركوزي كلما رفع رأسه في أفريقيا سفارة تركية وعليها العلم التركي، وأكدت أن تكون سفاراتنا في أحسن المواقع داخل الدول الأفريقية“.

وقد توجت مسيرة الرجل بعد هذه الحروب التي خرجت منها تركيا منتصرة والشعب أكثر وعياً واستقراراً وتقدماً باختياره رئيسا للجنة المركزية لحزب العدالة والتنمية، وتكليفه برئاسة الوزراء في أغسطس 2014م.

الانتخابات الأخيرة.. رجل المرحلة

إن أفضل وصف للحالة التي يتابع بها الجمهور المشهد التركي خاصة في الخارج هو “حبس الأنفاس”، فالارتباك ومحاولة الإيقاع بالعدالة والتنمية لا تتوقف، المؤامرات كثيرة، والواقع أصبح معقداً بشكل ليس من السهل متابعته، وفي الغالب يصل الناس لمرحلة أن العدالة والتنمية على الحافة ومعه تركيا، وليس أدلَّ على ذلك من المشهد الذي وقع في الانتخابات التركية الأخيرة في جولتيها الأولى التي وقف فيها الشارع أمام خيار الاستقرار بفوز حزب بالأغلبية، أو فوضى التوافق إن استمر المشهد.

الكثيرون شعروا بقلق أو على الأقل عدم ارتياح كامل منذ اختيار داود أوغلو خلفاً لأردوغان، على اعتبار أن الأخير له سمته وأسلوبه الذي يختلف كلياً عن أوغلو، لكن أثبتت النتائج أن اختيار الرجل كان مناسباً جداً، فالمشهد العنيف الذي أحاط بتركيا داخلياً وخارجياً احتاج إلى الهدوء والسلام أكثر من القوة، أو ربما أحدث الرجل التوازن المطلوب بين قوة أردوغان المعهودة والمستمرة، واللين والتروي المعروف عن صاحب نظرية السلام داود أوغلو.

المصدر: هفنجتون بوست عربي

Exit mobile version