مجلة “سلايت”: بوتين لا يستطيع فعل شيء أمام الإنترنت

تقرير: إلينا بوروغان – أندري سولداتوف

 

على مدى العقود الماضية، قامت سياسة الاتحاد السوفييتي ومن بعده روسيا على السيطرة على وسائل الاتصال ومراقبتها، لضمان السيطرة على الجماهير، ولكن مع تطور خدمة الإنترنت، لم يعد بإمكان بوتين فعل شيء لإخفاء تورطه في حرب أوكرانيا وروسيا.

في سنة 1955م نجح عالم الفيزياء السوفييتي فلاديمير فريدكين، في تصميم آلة طابعة، قادرة على نسخ الورقة عدة مرات، وقد كانت هذه الآلة مصدر فخر لآلة الدعاية السوفييتية، وحصل هذا المخترع على عدة جوائز وأصبح مشهوراً.

ولكن بعد سنتين من هذا النجاح، أصبح الناس يأتون إلى مكتبه لطباعة أوراق الصحف الأجنبية، فجاء عناصر جهاز المخابرات السوفييتي “كي جي بي” إليه، وسحبوا منه الآلة بدعوى أنها يتم استعمالها لنسخ أشياء محظورة، وهكذا تم وضع هذا الاختراع في طي النسيان بسبب سعي الحزب الشيوعي الحاكم إلى التعتيم على المعلومة ومراقبة وسائل الاتصال.

ثم بعد مرور 20 سنة على هذه الواقعة؛ كان الاتحاد السوفييتي يستعد لاستضافة الألعاب الأولمبية في موسكو في صيف 1980م، وكان حسن التنظيم يفترض أن يتمتع هذا البلد المضيف بعدة خطوط هاتف دولية، ولهذا الغرض قامت السلطات بزيادة عدد الخطوط الهاتفية الدولية، وإنشاء محطة دولية للبث الهاتفي في جنوب غرب موسكو.

وقد نجح مهندسو الاتصال السوفييت في ذلك الوقت في التوصل لابتكار غير مسبوق في بلدهم، تمثل في القيام بتأمين الاتصالات الهاتفية بشكل آلي ومباشر، دون المرور عبر موظف شركة الهاتف.

ولكن هذا الاختراع لم يدُم طويلاً، فبمجرد أن انتهت الألعاب الأولمبية، أمر “الكي جي بي” بإتلاف كل أجهزة الاتصال الحديثة، ورغم أن المهندسين بذلوا جهداً لإقناع المخابرات بأن هذا النوع من الخطوط الهاتفية يمكن التنصت عليه على غرار الخطوط القديمة، فإن ميل السلطات السوفييتية الدائم نحو الرقابة والتعتيم جعلها تتمسك بقرارها.

كانت الرقابة الشديدة المفروضة على الناس في الاتحاد السوفييتي تعتمد على كل الوسائل المتاحة، حيث يتم التجسس على كل من يتكلم في العلن، وكل من يمارس القراءة، ولكن دخول الابتكارات الجديدة المتمثلة في وسائل الاتصال الحديثة، مكنت الناس من التواصل بشكل أفقي، والتحدث فيما بينهم وتبادل الأخبار والآراء دون المرور عبر الشركات والسلطات، وهو أمر لم تستسغه الدولة السوفييتية لأن نظامها كان قائماً بشكل عمودي وليس أفقياً.

ولكن هذه الحقبة التي برعت فيها الحكومة السوفييتية في التعتيم والمراقبة، انتهت في سنة 1990م، عبر دخول تقنية الإنترنت لأول مرة، لمؤسسة “كورتشاتوف” للبحوث النووية في موسكو.

وتغير كل شيء منذ ذلك الوقت، ففي صيف سنة 1991م حاول “الكي جي بي” إسقاط نظام الرئيس جورباتشيف، وإيقاف المسار الإصلاحي الذي سلكه، فتم إرسال الدبابات والجنود إلى شوارع موسكو للقيام بانقلاب، وفرضت المخابرات حالة تعتيم إعلامي كلي، ولكن شبكة الإنترنت التي كانت حينها لا تزال بسيطة وبطيئة، مكنت الناس في الداخل والخارج من تبادل المعلومات وتحفيز الجماهير لإفشال هذا المخطط.

ومنذ أن نجحت شبكة الإنترنت في إفشال الانقلاب في سنة 1991م، واصلت تطورها وانتشارها بشكل حر وبعيد عن الرقابة في روسيا، حيث حاولت السلطات في عدة مرات وضع يدها في هذه الشبكة، وإجبار مزودي خدمة الإنترنت على زرع صناديق سوداء للتجسس على المستخدمين، ولكن رغم أن هذه الصناديق نجحت في تسجيل كل المعلومات المتداولة بين الناس، فإنها لم تنجح أبداً في إلغاء الميزة الكبرى التي تميز هذه الشبكة، وهي أن الجميع يمكنه أن يشارك في صنع المعلومة ويدلي بما يدور في ذهنه، دون الحاجة لتصريح من أحد.

وفي سنتي 2011 و2012م، على إثر المظاهرات التي شهدتها موسكو، اعتبر فلاديمير بوتين مسألة مراقبة الاتصالات مسألة شخصية، وأعلن في سنة 2014م أن الإنترنت هي صناعة استخباراتية أمريكية، ليمهد بذلك لإصدار قوانين أكثر تشدداً في التعامل مع شركات الإنترنت ومستعمليها، من أجل تهديدهم وإخضاعهم.

وقام بوتين في عدة مناسبات باستدعاء رؤساء شركة “يالدكس” وفرع شركة “جوجل” في موسكو، للتحدث معهم حول مراقبة الإنترنت، ورغم أن هذه الشركات قبلت بمبدأ المراقبة والحجب؛ خوفاً من أن يتم قطع هذه الخدمة عن روسيا نهائياً، فإن ذلك لم يمنع الروس من تداول المعلومات التي تهمهم.

ولكن رغم هذه المساعي الاستبدادية نجحت شبكة الإنترنت في التملص من كل أنواع الحجب والتضييق؛ لأن هذه الشبكة ليس لها رئيس وليس لها مركز، فهي شبكة أفقية يمكن فيها لأي مستعمل أن يخلق المعلومات المتداولة ويتواصل مع الرأي العام كما يريد.

وبعد اندلاع الحرب في أوكرانيا؛ حاولت السلطات الروسية جاهدة نفي أي تورط لها في هذا الصراع، لكن سرعان ما نجح صحفيون روس وأوكرانيون في إثبات العكس، بعد أن نشر جنود روس صوراً لهم على مواقع التواصل الاجتماعي، يفتخرون فيها بما يفعلونه في أوكرانيا، وبذلك نجح المجتمع المدني في تحديد أسماء هؤلاء الجنود وأسماء الوحدات التي يتبعون لها، والمواقع التي يقاتلون فيها في أوكرانيا.

وقد تكرر نفس هذا السيناريو المحرج خلال هذا الخريف، حيث تم إثبات وجود جنود روس يقاتلون في سورية لإنقاذ نظام بشار الأسد، هؤلاء الجنود الشبان الذين لا يعرفون شيئاً عن معركة الإنترنت، تسببوا بدون قصد في فضح مخططات فلاديمير بوتين، وإفشال مساعيه للسيطرة على تدفق المعلومات في روسيا.

وتؤكد هذه التجربة أنه في أوقات الاستقرار السياسي، يمكن للحكومات أن تسيطر على الإعلام وتقنع الرأي العام بدعاياتها، ولكن خلال أوقات الأزمات، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو حتى كارثة طبيعية، فإن شبكة الإنترنت تمكن مستعمليها من خلق المحتوى بأنفسهم، ونقل المعلومات التي يعرفونها إلى غيرهم، والسلطات لا تملك أي وسيلة لإيقافهم باستثناء قطع خدمة الإنترنت كلياً.

 

الرابط :http://www.slate.fr/story/108651/poutine-peut-rien-contre-internet

Exit mobile version