الهافنجتون بوست: النظام الاقتصادي العالمي يتغير بسبب أزمة الصين

لا يزال الوقت مبكرا لقياس حجم تأثير الأزمة الاقتصادية الصينية، ومن السابق لأوانه معرفة إن كانت هذه الأزمة هيكلية وعميقة أم أنها مؤقتة، ولا يزال الوقت مبكرا أيضا لمعرفة نقاط الضعف المالية والنظام البنكي والسوق العقارية وتأثير التركيبة الديمغرافية الصينية، وتأثير ذلك على النمو الاقتصادي. ولكن الشيء المؤكد إلى حد الآن هو أن الصين لم يعد بإمكانها أن تكون القاطرة التي تجر وراءها النمو الاقتصادي العالمي نحو الارتفاع.

بشكل عام تبدو أوروبا مقبلة على نسب نمو اقتصادي ضعيفة خلال العشرية المقبلة، ولن يكون بإمكانها استعادة ديناميكيتها الاقتصادية من خلال السير على خطى القوى العالمية الأخرى على غرار الولايات المتحدة والهند والبرازيل.

من المؤكد أن هذه القوى العالمية تلعب دورا أساسيا في النظام الاقتصادي الذي تحكمه العولمة، ولكن من الضروري أيضا أن نعي بالتأثير الجوهري الذي دخل على الاقتصاد العالمي بسبب الأزمة الصينية، وهو تحوله إلى “اقتصاد إقليمي” بعد أن كان معولما، من خلال تكوين مجموعات من البلدان في كل إقليم تحاول إنشاء تكامل فيما بينها والاستفادة من القرب الجغرافي والنقاط المشتركة، ولهذا فإن النظر للصين مستقبلا على أنها لاعب رئيسي في العالم سيكون غير منطقي، فخلال الوقت الذي تقوم فيه بتغيير نسيجها الاقتصادي الداخلي، بدأت الصين منذ سنوات التسعينات في إدخال تغييرات جذرية على إستراتيجيتها الإقليمية، من خلال التركيز على الاندماج في منطقة شرق آسيا، وخاصة من خلال اتفاقية “آسيان” التي تضم ثلاثة دول رئيسية وهي الصين واليابان وكوريا الجنوبية.

ورغم أن العلاقات تبدو معقدة بين هذه الدول، وخاصة بين الصين واليابان، فإن الإستراتيجية الصينية للاندماج في شرق آسيا منحتها القاعدة الأساسية لغزو الأسواق العالمية. والمنظمة العالمية للتجارة ما فتئت تفسر لمتابعيها أن جزء كبيرا من الصادرات الصينية يأتي من عمليات تجميع وتركيب البضائع المصنعة في اليابان وماليزيا وتايوان وكوريا.

خلال سنوات الثمانينات كانت ثلث صادرات دول آسيا الشرقية موجهة إلى دول أخرى في نفس المنطقة، ولكن اليوم هذه النسبة تقارب الثلثين، وعندما يقوم اليابانيون بإعادة توطين ماكينتهم الإنتاجية في الخارج، فإنهم يقومون بذلك في الدول الصاعدة في المنطقة. هذان التوجهان الاقتصاديان العالميان المختلفان، يتلخصان من خلال كلمتي “إقليمي” و”عولمة”، وهما مفتاحا فهم التغيرات الاقتصادية في المستقبل.

وكانت الدول الأوروبية في طليعة من بدؤوا الاعتماد على طريقة الاقتصاد الإقليمي، لعدة أسباب اقتصادية ومؤسساتية، إذ لم تكن أوروبا لوحدها قادرة على الوقوف في وجه القوى الآسيوية الصاعدة والاستعمار التكنولوجي الأمريكي، ولذلك كانت مضطرة للاستعانة بأفكار جديدة من خلال تكثيف المعاملات مع دول الجوار.

وتعتبر الأزمة الاقتصادية الصينية فرصة للدول الأوروبية للتركيز بشكل أكبر على الاندماج الإقليمي، عوضا عن العولمة، خاصة في علاقاتها مع الدول المتوسطية والدول الإفريقية. وعوضا عن مواصلة تركيز أنظارها على مأساة والمهاجرين ومعضلة الإرهاب، يجب على أوروبا تسريع نسق الاندماج الاقتصادي الأوروبي المتوسطي الإفريقي، وهو ما سيمثل الحل الأفضل لضمان الاستقرار السياسي و النمو الاقتصادي والتعاون والتنمية.

وهذا يمر في جزء منه عبر تغيير النظرة الأوروبية للفرص الاقتصادية المتوفرة في أسواق هذه الدول المتوسطية والإفريقية، حيث أن الغموض الذي يكتنف مستقبل اقتصاد الصين، والارتفاع الملحوظ في أسعار العقارات والأجور، جعل الشركات الأمريكية تنقل وسائل الإنتاج إلى أمريكا الشمالية والمكسيك.

ويجب على الشركات الأوروبية الآن أن تستفيد من هذه الفكرة، وعوض الارتباط بالاقتصاد الصيني وتركيز الاستثمارات في بيكين، يجب على الدول الأوروبية التفكير في الاستثمار في دول مثل المغرب وتونس والجزائر وتركيا ومصر، التي يمكن أن تصبح “تنين شمال إفريقيا” بالنسبة لأوروبا، على غرار التنين الآسيوي.

كما يمر هذا في مرحلة ثانية عبر تغيير السياسات الأوروبية مع دول الجوار، حيث أنها تركز حاليا على التبادل الحر، عوض أن تسعى إلى تركيز جهاز إنتاج عابر للبحر المتوسط، يعتمد على التعاون في الإنتاج ويستند إلى المجتمع المدني وحماس الشركات والمستثمرين.

إن الأزمة الصينية والدروس المستفادة منها تحتم على أوروبا أن تسعى إلى الاندماج الاقتصادي الإقليمي عوض العالمي، مع دول جنوب المتوسط الصاعدة والدول الإفريقية، التي تمتلك مؤهلات ومميزات جد محفزة، مثل كبر حجم هذه الأسواق والتشجيعات الممنوحة للمستثمرين الأجانب، والتغطية الاجتماعية واحترام قوانين حماية المحيط، وهو ما يوفر لأوروبا فرصة تحقيق استقرار اقتصادي، بالاعتماد على التعاون الإقليمي عوض الارتباط بالاقتصاد المعولم والفوضوي، الذي تمثل الصين أحد أهم الشركاء فيه، وهو ما سيجعل أوروبا بمنأى عن المشاكل الاقتصادية التي تحصل في الصين، التي كانت في الماضي تعتبر قاطرة الاقتصاد العالمي. وفي المرة القادمة عندما تمرض الصين أو الولايات المتحدة، لن تجد أوروبا نفسها تعاني هي أيضا، من تداعيات الأزمة.

الرابط :http://www.huffingtonpost.fr/jeanlouis-guigou/quand-la-chine-senrhume_b_8366714.html?utm_hp_ref=fr-international

Exit mobile version