الكويت تنفق على العملية التعليمية أكثر من مليار ومائتي مليون دينار كويتي، وتستطيع أن تخرج منتجاً أكثر كفاءة وبميزانية أقل
ما زال تعليمنا تعليماً تلقينياً يقوم على الحفظ والشحن
الارتقاء بالتعليم وتحسين المنتج التعليمي أساسه الاهتمام بالمعلم
في لقاء مطول مع د. عبدالله إسماعيل الكندري، مدير عام لجنة مدارس النجاة، كبرى المؤسسات التعليمية الأهلية في الكويت، ناقشت «المجتمع» العديد من المحاور التربوية والتعليمية المهمة، وكان من أبرزها الطالب؛ وهو أهم محاور العملية التربوية، والمعلم؛ المسؤول الأبرز في هذه العملية الحيوية، وتطرقنا إلى محاور أخرى مثل المنهج، والمدرسة، ومستقبل التربية، كما يراها د. عبدالله الكندري، وهو قامة تربوية بارزة، وصاحب تاريخ طويل في العمل التربوي المهني والنقابي والاجتماعي.
وقد صرح لنا د. الكندري بأنه غير راضٍ عن حال التربية بصفة عامة في الكويت وفي العالم العربي، وأنه يطمح في أن يضارع التعليم في الكويت مثيله في أنحاء العالم المتقدم، وأن تضاهي المدارس العربية مثيلاتها الأوروبية والأمريكية.
وقال الكندري: إن غياب الرؤية الواضحة والإستراتيجية في التعليم وراء عدم الكفاءة التي تعيب نظامنا التعليمي والتربوي، وأضاف أن الخلل التربوي والقيمي في نظامنا التربوي أشد من الخلل التعليمي.
وأظهر تعاطفاً كبيراً مع معاناة المعلم المادية، وقال: إن حل مشكلات المعلم المادية ستساهم بشكل فعَّال في حل مشكلات التعليم.
وانتقد المناهج التعليمية التي لا تركز إلا على الحفظ والاسترجاع، في الوقت الذي تركز فيه المناهج المتقدمة على بناء الشخصية المتكاملة.
ود. عبدالله الكندري الذي يفخر بأنه بدأ حياته معلماً لمادة الاجتماعيات، حصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في الإدارة التربوية من جامعة القاهرة، وظل رئيس لمجلس إدارة جمعية المعلمين الكويتية من عام 1999 حتى 2009م خمس دورات نقابية (عشرة سنوات)، وأسس رابطة المعلمين الخليجيين بالتعاون مع جمعيات المعلمين في دول الخليج، وترأسها لمدة عامين من عام 2006 حتى 2008م، وهو محاضر في الجامعة، وله إسهامات علمية غزيرة لا يتسع المجال لذكرها هنا.
– نحن سعداء للغاية بإجراء هذا الحوار مع قامة كويتية تربوية كبيرة، وسيشمل حوارنا مجموعة من المحاور التربوية من بينها الطالب والمعلم والمدرسة والمنهج ومستقبل التربية في الكويت.. أولاً: هل تتناسب مخرجات التعليم في الكويت مع ما يُنفق من مال؟ وهل تتناسب مع البيئة والعادات والتقاليد والدين وسوق العمل؟
– في البداية، أود أن أشكركم على هذا اللقاء، فمجلة «المجتمع» لنا معها تاريخ طويل، منذ الصغر، فأنا كنت من المتابعين للمجلة منذ كنت طالباً في الثانوية، وكانت عندي أعداد قديمة جداً وبكميات كبيرة، وكانت المتابعة دقيقة للغاية، وللأمانة كانت مجلة «المجتمع» صوتاً نفتخر به، ففي وقت من الأوقات كانت الصوت الوحيد على الساحة، الذي يهتم بقضايا وشؤون المسلمين في العالم، وكان انتشار المجلة وتسويقها خارج الكويت أكثر من داخلها.
أما بالنسبة للطالب، فما من شك أن الطالب هو محور العملية التعليمية، ومشكلتنا في العالم الثالث كله، والكويت جزء من هذا العالم، أننا لا نملك الرؤية الإستراتيجية للعملية التعليمية، فالعالم الثالث ينطلق من نظرات فردية، خاصة بكل وزير، ونحن لا نطعن في كفاءتهم ولا في اجتهاداتهم، ولكن المحصلة أنه لا توجد رؤية متكاملة للعملية التعليمية، لذلك تخضع العملية التعليمية للاجتهادات الخاصة بكل وزير، والوزراء يتغيرون باستمرار، وكل وزير يأتي بأجندته الخاصة، فالرؤية غير واضحة لشكل المنتج الذي نريده.
فالكويت تنفق على العملية التعليمية أكثر من مليار ومائتي مليون دينار كويتي، وتستطيع أن تخرج منتجاً أكثر كفاءة وبميزانية أقل، في حالة وضوح الرؤية التعليمية، وينبغي أن يكون المنتج عندنا يضاهي المنتج العالمي من حيث الكفاءة سواء المستوى التعليمي أو المستوى الخلقي والقيمي.
– فما رؤيتك، إذن، كخبير تربوي لإصلاح هذا الخلل؟
– بفضل الله، تبوأتُ الكثير من المناصب النقابية، وكنت عضواً للمجلس الأعلى للتعليم لثلاث دورات، وشاركت في كثير من المؤتمرات، ومن خلاصة تلك التجارب العملية، أرى أن أي عملية إصلاح للتعليم تبدأ من خلال تبني رؤية واضحة، وهذا ما نفتقده في دول العالم الثالث، فلا توجد رؤية واضحة ولا ندري إلى أين نسير؛ لأننا نفكر في يومنا فقط، ولا نفكر في المستقبل، في حين أن الدول المتقدمة تضع خطة تعليمية ورؤية واضحة يتم تنفيذها في مدى خمسين سنة.
– لماذا تعتقد أنه لا توجد رؤية تربوية واضحة؟
– لا بد أن نحدد إن كانت الكويت دولة صناعية أم تجارية أم دولة خدمات، فإن كانت دولة صناعية فيجب التركيز على هذا الجانب في التعليم، وإن كانت دولة تجارية يجب التركيز عليه في التعليم، وكذلك الأمر إن كانت دولة خدمات.
لذا فغياب الرؤية أو عدم وضوحها هو لب المشكلة عندنا، والعملية التعليمية مرتبطة بالعملية التنموية بشكل عام، فإذا كنا لا نملك خطة تنموية واضحة لإدارة شؤون البلاد بشكل عام، فسيؤدي ذلك لخلق الكثير من الأزمات والمشكلات التي نحن في غنى عنها.
– هل نطمح أن تقوم مؤسسة كبرى مثل مؤسسة النجاة، التي تخدم قطاعاً كبيراً في الجانب التعليمي والتربوي بتقديم رؤية إستراتيجية واضحة للعملية التعليمية والتربوية في الكويت؟
– نحن بدأنا ولله الحمد والمنة في عمل دراسة للواقع، حيث تدير مؤسسة النجاة 15 مدرسة تحوي 12 ألف طالب، وقمنا بعمل دراسة على أرض الواقع، وكانت مدارس النجاة هي محل الدراسة، واستخرجنا من هذا الواقع مجموعة محاور للتطوير، ونحن حالياً بصدد وضع خطة إستراتيجية لمدة خمس سنوات، تبدأ من هذا العام، وهذه الخطة لها مجموعة من المحاور منها المحور القيمي والأخلاقي.
فمدارس النجاة منذ نشأتها سنة 1968م قامت على هذا المنهج القيمي والأخلاقي، حيث عمل على إنشائها رجال أفاضل من نخبة المجتمع الكويتي، وعلى رأسهم العم أبو بدر يرحمه الله تعالى، صاحب اليد البيضاء، بالإضافة إلى مجموعة من المؤسسين، من بينهم سعود فيصل المقهوي، يرحمه الله تعالى، ومشاري فداح الخشرم، وكان الهدف من إنشاء مدارس النجاة هي وجود بصمة تربوية لهؤلاء الرجال الكبار من خلال هذه المدارس، ومنذ ذلك الوقت بدأت مسيرة تدريس القرآن الكريم والقيم.
ومشروعنا الحالي يقوم على مجموعة من المحاور، من بينها تدريس القيم، ومشروع مطور لتدريس القرآن الكريم، وإن شاء الله نجد ثمرة ذلك خلال السنوات القادمة، فهذا هو المحور القيمي.
أما المحور الثاني؛ فهو يختص بجودة التعليم، وحتى نصل لخطة تعليمية واضحة المعالم استعنا بأحد الخبراء لأجل هذا الهدف، وما زالت الخطة قيد الإعداد، لأننا نريد تقديم رؤية إستراتيجية ورسالة واضحة وجديدة للمؤسسة، حتى تكون مدارس النجاة هي أفضل المدارس العربية في الكويت، ونسعى أن تكون للنجاة مؤسسات خارج الكويت في المستقبل القريب إن شاء الله تعالى.
المحور التالي الذي نحن بصدده هو محور تكنولوجي، حيث وضعنا مشروعاً لرؤية تمكن مدارسنا من أن تتعامل مع الفكر الإلكتروني بشكل كامل إن شاء الله تعالى، ونحن نأمل أن تكتمل هذه المنظومة خلال خمس سنوات.
كذلك لدينا مشروع تدريبي مكثف للمعلمين وتأهيلهم، بحيث يكون المدرس الذي يقوم بالتدريس في مدارس النجاة صاحب رسالة، ونموذجاً متميزاً حضارياً وفكرياً، فهدفنا تأهيل المدرس ليكون صاحب مادة علمية متميزة وصاحب رسالة، ولقد بدأنا بالفعل في محاور تدريبية مكثفة للوصول لهذا الهدف.
– ماذا عن كثافة الصفوف؟
– بخصوص الكثافة، لدينا مدارس نموذجية ومدارس أهلية، فالمدارس النموذجية حسب القانون 25 طالباً، ونحن ملتزمون بهذا 100%، مع أن الإقبال شديد، ولكنا لا نتجاوز الرقم مطلقاً، وأيضاً في المدارس الأهلية، الكثافة أعلى لأن النظام يختلف، ومع ذلك ليست بالكثافة الموجودة في بعض المدارس الأخرى.
– الكثافة قد تصل إلى 40 طالباً؟
– الواقع يفرض علينا ذلك، مدارسنا تقوم بتدريس المنهج الوطني لدولة الكويت، وكذلك المدارس العربية، واليوم المدارس العربية أصبحت قليلة، لأن كثيراً من أصحاب الأموال يعزفون عن الاستثمار في هذه المدارس، لأن الربح محدود، فبدؤوا يتجهون اتجاهات أخرى، حيث المدارس ثنائية اللغة، والأجنبية، ومع ذلك نحن ما زلنا متمسكين بنهجنا ومبادئنا.
فالوضع القائم يفرض علينا تلك الكثافة في الفصول؛ لأنه يوجد ضغط كبير علينا، والمدارس المتمسكة بالمنهج الوطني قليلة، والظرف السياسي حساس، وما يحدث في الدول المحيطة ينعكس علينا، لذا نحن نحاول أن نقبل أكبر عدد.
وفي حالة عدم قبول المدارس العربية في الكويت بمبدأ زيادة الكثافة، سوف يكون هناك 24600 طالب، لا يجدون لهم مقعداً دراسياً، ويكون مصيرهم البقاء في بيوتهم، وهذا رقم رسمي.
– ما زال المعلم يعاني، وخصوصاً في المدارس الأهلية، فإلى متى ستضرب بصرخاته عرض الحائط؟
– في العام الماضي، وزارة التربية قررت زيادة الرواتب زيادة بسيطة، في جميع المدارس العربية، ونحن كنا أول من التزم بتلك القرارات، مع أن هذه الزيادة شكّلت لنا خسارة في بعض المدارس، ومع ذلك التزمنا.
وفي هذا العام، قمنا بتعديل الرواتب لكل العاملين في الهيئة الإدارية، ونحن بصدد دراسة مشروع المعلم، ونأمل أن ينتهي قريباً، ونأمل أن يتم إقراره هذا العام.
وقد اجتمعتُ مؤخراً مع إداريي المدارس وأخبرتهم بضرورة الإسراع من الدراسة، وربنا يبارك في جهود الجميع.
فنحن نهتم بالمعلم من الناحية المادية، وكذلك لدينا مشاريع تطويرية وتدريبية، وكل تلك الأمور تعتبر محوراً أساسياً في تنمية قدرات المدرس والارتقاء به مادياً ومعنوياً.
فالمعلم هو محور رئيس في تطوير العملية التعليمية، وربما يكون هو الأهم، ولذلك فنحن نرى أن مشروع الارتقاء بالتعليم وتحسين المنتج التعليمي أساسه الاهتمام بالمدرس.
– كل تلك الجهود قد تضيع إن لم يكن لدى المدرس اكتفاء مادي؟
– دعنا نتحدث بصراحة، أنا لا أنكر أهمية الجانب المادي، في ظل الظروف المعيشية الصعبة، فهو مطلب أساسي لا ننكره، ولكن لا نستطيع الجزم أنه هو العنصر الوحيد، فلا بد أن يكون المعلم على يقين تام أن له رسالة يجب عليه أن يؤديها، وعندما يستشعر أنه يقوم بأداء رسالة، ويؤمن أن الله تعالى سوف يجزيه خيري الدنيا والآخرة لأجل تأديته الرسالة على أكمل وجه، بالتأكيد سيكون الأمر أفضل بالنسبة للمعلم وسينعكس ذلك على جودة المنتج التعليمي.
– المدرس لا يتقاضى عُشر ما يتقاضاه معلمو البناء والأعمال المهنية المتعلقة بها، هل هذا الوضع مناسب أم لا؟
– بالتأكيد هذا الوضع مرفوض، وبصفتي كنت معلماً في السابق، وحملت راية الدفاع عن المعلمين سنوات طويلة، أكثر من 16 عاماً ما بين عضو ورئيس جمعية المعلمين الكويتية، وحملت هموم المعلمين وما زلت أتشرف بهذا الدور.
ونحن في مدارس النجاة نحمل هذا الهم، ونطمح في أن نكون مؤسسة متميزة، من جميع الجوانب ومنها الاهتمام بالمعلم، ليصبحوا أفضل المعلمين.. نحن نمشي على عدة محاور في تطوير العملية التعليمية، هي حسن اختيار المعلم؛ وبالتالي العمل على تحسين دخله المالي، وإجراء التدريب والتطوير المستمر له.
– هل تواكب المدارس التطور العلمي المتسارع في العالم؟
– البيئة المدرسية عنصر أساسي؛ والبيئة تشمل المبنى والمرافق والخدمات والملاعب، وورش المختبرات، كل ذلك يعتمد على فلسفتنا في العملية التعليمية، فغياب الرؤية الإستراتيجية التعليمية جعلنا نغفل عن أمور كثيرة، فأصبحنا نركز على أمور مظهرية دون التركيز على الأمور الجوهرية.
فمن المعروف أن المنهج ليس هو الكتاب المدرسي، فالكتاب المدرسي جزء من المنهج، والمنهج منظومة متكاملة، لذا أستطيع القول: إنه مازال أسلوبنا في التعليم أسلوباً تلقينياً، وكل ما يهم الطالب هو الاختبار، وهذا يستدعي تغيير فلسفة التعليم، وهذا هو الفرق بين النمط الغربي والنمط الشرقي.
فالنمط الغربي يركز على شخصية الطالب، ولا يركز على كم المعلومات، وفي الوقت الحالي قد يفوق الطالب المعلم في المعلومات عن طريق وسائل البحث المتعددة على الشبكة الإلكترونية، وقدرات الطلبة في التعامل مع وسائل التواصل أقوى من المعلمين أنفسهم، فضلاً عن الآباء والأمهات.
فما زال تعليمنا تعليماً تلقينياً يقوم على الحفظ والشحن، لذا نحتاج أن ننقل تعليمنا نقلة أخرى، تبنى على إعادة صياغة الفلسفة التعليمية التي تقوم على صياغة وصقل شخصية الطالب، وذلك له ارتباط بالجانب السياسي، فنحن نعاني في العالم العربي من افتقاد الحريات وعدم القدرة على إبداء الرأي، وما زلنا في العالم الثالث والعالم العربي جزء منه أسرى لأنظمة شمولية فردية، لا تؤمن بالحرية ولا الديمقراطية.
– هل تؤدي الأنظمة الشمولية دوراً سلبياً في تخلف العملية التعليمية؟
– لا شك في ذلك، وقبل أن نتحدث عن الخلل في المنظومة التعليمية وكيفية العلاج والمخرج، لا بد من معالجة الخلل السياسي أولاً، فالإصلاح السياسي هو مقدمة أي إصلاح في العالم.
– بصفتكم خبيراً تربوياً ورائداً من رواد التربية، كيف ترى مستقبل التربية في الكويت؟
– الوضع السياسي قبل 20 عاماً كان أفضل من اليوم، حيث كان أكثر استقراراً، حالياً العالم يموج بالصراعات والحروب والطائفية وغياب الحريات، وقهر الشعوب، وفي ظل غياب الرؤية، لا أرى إلا ضبابية، وعدم وضوح في الرؤية!
أتمنى الخير لبلدي، ولبلاد المسلمين، ولكن في ظل ما أراه وأشاهده وألمسه، أرى أن الوضع العام يدعو للقلق سواء داخل الكويت أو على مستوى العالم العربي.