الواقع الاقتصادي يعمق أزمة الثقة بحكومة مصر

بعد وقوع أزمة جنوب شرق آسيا عام 1997م، تعرضت ماليزيا لحرب شعواء على عملتها المحلية التي انخفضت بنحو 40%، في ذلك الحين، ومن أجل تقوية موقف احتياطي النقد الأجنبي للبلاد لاسترداد العملة المحلية لجزء من قيمتها، أصدر رئيس الوزراء في ذلك الحين مهاتير محمد بإلزام جميع المصدرين بتحويل عائد الصادرات بنسبة 100% إلى داخل البلاد، وبالفعل التزم المصدرون بهذا القرار، وذلك لثقتهم أن الحكومة تعمل لصالح الاقتصاد الوطني، وأن ما تعد به الحكومة تنفذه، وأن جسوراً من الثقة قد بنيت على مدار أكثر من عقدين من الزمن بين شركاء التنمية في ماليزيا.

على العكس من ذلك تماماً، تعيش مصر حالة من عدم الثقة بين شركاء التنمية، (الحكومة، وقطاع الأعمال والقطاع العائلي)؛ مما أدى إلى انهيار العديد من المؤشرات الاقتصادية، وبسبب اتباع الحكومة لسياسات اقتصادية بقرارات منفردة، ودون مشاركة قطاع الأعمال أو القطاع العائلي، وكذلك في ظل غياب البرلمان، وتعطيل دور المؤسسات الرقابية.

وعود أضرت بالعمال

لم يعد قطاع عريض من العمال يثق في وعود الحكومة، فقد أعلنت حكومة الببلاوي عقب الانقلاب العسكري في يوليو 2013م، أنها سوف تقوم بتطبيق الحد الأدنى والأقصى للعاملين بالحكومة، ولكن اتضح أنها جمدت تطبيق الحد الأقصى للأجور، بسبب صدور أحكام قضائية لصالح العاملين في القضاء وموظفي الجهاز المصرفي، مع استثناء العاملين في الجيش والشرطة في الأساس، وبذلك وجد العاملون أنهم ضحية وعود كاذبة.

والأشد ضرراً هم العمال الذي حلموا بتطبيق الحد الأدنى للأجور، وبغض النظر عن التطبيق الجائر وغير السليم، وكذلك عدم شموله لجميع العاملين بالحكومة، حيث فقد هؤلاء العاملون جزءاً كبيراً من الزيادات التي حصلوا عليها، بسبب ارتفاع معدلات التضخم، وتخفيض مخصصات الدعم في العديد من الخدمات، وارتفاع أسعار خدمات أساسية مثل المياه والغاز والكهرباء، مما جعلهم يتمنون لو أنهم ظلوا على ما كانوا عليه دون زيادة.

ولم يكن الأطباء والمعلمون ببعدين عن تخلي الحكومة عن وعودها معهم، فلم يتم تنفيذ الكادر الخاص لرواتب الأطباء والمعلمين، بل إن أعضاء هيئة تدريس الجامعات تعرضت رواتبهم للنقصان بعد أن تضاعفت أثناء فترة الرئيس المدني المنتخب د. محمد مرسي.

أضرار مجتمع الأعمال

أصيب مجتمع الأعمال بأضرار بالغة في ظل الانقلاب العسكري، أولها صدمتهم بتوغل الجيش في الحياة الاقتصادية، وسيطرته على مقدرات قطاعات فعالة مثل المقاولات والإنشاءات، وبخاصة في مجالات حيوية مثل الطرق والكباري.

كما أدت السياسات الاقتصادية التي اتبعتها حكومة الانقلاب إلى مضايقات شملت مجال الاستثمار بشكل رئيس، حيث تم اتباع سياسة منفردة من قبل البنك المركزي تجاه سعر الصرف، مما عرقل حركة الاستيراد لمستلزمات الإنتاج، وزيادة تكاليف الإنتاج من خلال ارتفاع سعر الدولار، سواء في السوق الرسمية أو السوداء.

كما تضرر قطاع الأعمال بشكل ملحوظ من جراء سياسات حكومة الانقلاب في قطاع الطاقة، سواء من خلال عجز الحكومة عن توفير احتياجات المصانع وباقي مؤسسات مجتمع الأعمال من الطاقة، أو رفع أسعار الطاقة على المصانع والمنشآت التجارية.

وكانت توقعات مجتمع الأعمال أن ينطلق الاقتصاد المصري، عقب الانقلاب، ولكنهم فوجئوا بزيادة معدلات الفساد في الجهاز الحكومي، وتعطيل الكثير من المعاملات بسبب البيروقراطية، وتركيز جزء كبير من النشاط الاقتصادي في يد رجال أعمال مبارك، والضباط السابقين من الجيش والشرطة.

ولم يلحظ مجتمع الأعمال أداء مميزاً من حكومة الانقلاب في قضايا مهمة، تخص مجال عملهم، مثل تراجع سعر صرف الجنيه، أو الزيادة الكبيرة في الدين العام، أو إطلاق العنان لمعدلات التضخم.

فضلاً عن أن غالبية المشروعات القومية الكبرى التي وعدت بها حكومة الانقلاب، اتضح أنها كانت للاستهلاك الإعلامي، فلم تصدق وعود الانقلاب في بناء المليون وحدة سكنية، ولا في إقامة العاصمة الإدارية الجديدة، كما لم تحقق تفريعة القناة الجديدة أي زيادة في حركة السفن بالقناة خلال الشهر الأول، ولذلك هناك حالة من التشاؤم تخيم على مناخ الاستثمار في مصر.

لقد وجد مجتمع الأعمال نفسه فريسة لابتزاز الانقلاب، وبخاصة كبار رجال الأعمال، الذين أجبروا على التبرع لصناديق تم تأسيسها من قبل قائد الانقلاب، لتمويل مشروعات لا يعلمون عنها شيئاً، ولا توجد رقابة تسمح بأن تعمل هذه الصناديق أو المشروعات في إطار من الشفافية، حتى يطمئن رجال الأعمال على تبرعاتهم، وسلوك إجبار رجال الأعمال على التبرع، جعلهم يدركون أن ثرواتهم ليست ملكاً لهم، وأنهم لا يستطيعون التصرف في أموالهم وفق رغباتهم، ولكنهم ينتظرون بين الفينة والأخرى الدعوة للتبرع لمشروع أو صندوق يدعو إليه رئيس الانقلاب.

أضرار المجتمع العائلي

لعل أكبر ما يضر بالمجتمع العائلي في مصر من السياسات الاقتصادية للانقلاب العسكري، ما يتعلق بسعر الفائدة المنخفض على ودائعهم بالجهاز المصرفي، في ظل ارتفاع معدلات التضخم، مما يجعلهم يتعرضون لانخفاض ثرواتهم المتمثلة في ودائعهم، وبخاصة صغار المدخرين، وفي نفس الوقت ارتفاع تكاليف المعيشة؛ مما يؤثر على مستويات استهلاكهم، ومستوى رفاهيتهم.

إن حكومة الانقلاب لم تعد تعبأ بالحفاظ على ثروات المجتمع العائلي، بسبب سياساتها الرامية إلى استمرار انخفاض سعر الفائدة، حتى تحصل على قروضها بتكلفة أقل، وبخاصة أن مديونياتها لا تتوقف، وتقوم أسبوعياً باقتراض نحو 7 مليارات جنيه.

كما أن ما تعانيه حكومة الانقلاب من عجز بالموازنة العامة، وزيادة في الدين العام بشكل كبير، أدى إلى حرمان الطبقة الفقيرة، والشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة، من العديد من الخدمات، وحتى ما يحصلون عليه يكون دون المستوى، سواء في قطاع التعليم أو الصحة، أو خدمات البنية الأساسية من مياه الشرب أو الكهرباء، أو الصرف الصحي الآمن.

إن شريحة كبيرة من المجتمع المصري كانت تحلم بتحقيق العدالة الاجتماعية بالفعل، ولكنها بعد الانقلاب فوجئت بممارسات تحول دون تحقيق العدالة الاجتماعية، من خلال ممارسات المسؤولين الحكوميين، أو تصريحاتهم، وما تصريحات وزير العدل السابق ببعيدة، حول اختيار أعضاء النيابة، أو من خلال تصريحات وزير التعليم العالي الحالي فيما يخص استثناء أبناء القضاة والعسكريين من التوزيع الجغرافي للجامعات، وكذلك حرمان أبناء الأقاليم من القبول بكلية معينة على الرغم من حصولهم على الدراجات المؤهلة لهذه الكليات.

ومما أدى إلى عدم ثقة القطاع العائلي تجاه حكومة الانقلاب، ما تشهده معدلات البطالة الحقيقية من زيادة، في حين تعلن الجهات الحكومية انخفاضها؛ وهو ما دفع العديد من الشباب للبحث عن فرص للهجرة الدائمة أو المؤقتة؛ بحثاً عن فرصة عمل أو مستوى معيشة أفضل.

إن آفة الدكتاتورية أن يعتقد القائمون عليها بأنهم يعيشون وحدهم في الوطن، وأنهم يتفردون بحسن التصرف، وأنهم من يفكرون ويتخذون القرار، ويتناسون أن الشعوب لها حدود وسقف يتحملون في إطاره نتائج تصرفات الحمقى، وما تشاوسكو في رومانيا ولا ماركوس في الفلبين منا ببعيد، فسيأتي يوم ينفجر فيه هذا الشعب المغلوب على أمر، وتبقى الثمار المرة لتصرفات الانقلاب العسكري، سواء على صعيد النشاط الاقتصادي أو غيره من الأنشطة، ليدفع الثمن أجيال قادمة، من مواردها الاقتصادية بل ومن حريتها الشخصية لسداد فاتورة الدكتاتورية.

Exit mobile version