أبعاد وخفايا الانقلاب العراقي

في تصريح صحفي خطير للرئيس الأمريكي أوباما يوم 6/ 8/ 2015م، وعلى قدر تعلق الأمر بالمصالح الأمريكية، قال: “إن الولايات المتحدة الأمريكية لم تتحلَّ بالحكمة في حربها على العراق عام 2003م، وأن ظهور “تنظيم القاعدة” في العراق وتعزيز قوة إيران وبرنامجها النووي ليس سوى نتيجة لتلك الحرب التي أنفقنا عليها أكثر من ثلاثة تريليونات من الدولارات.. هذا واقع من التاريخ”.

لقد كان تعبير عدم التحلي بالحكمة مصطلحاً مهذباً للفشل الأمريكي في العراق من جوانب عديدة، والذي نعته الكاتب الصحفي إيراشيونس بالفشل الذريع، ومنذ الأيام الأولى وما صاحب ذلك من انفلات أمني وتأجيج للطائفية، ولتنتهي أخيراً بضياع المصالح الأمريكية وتبخرها على يد إيران ومحركها الروسي، وبواسطة تيارات شيعية كالمالكي وبطانته الفاسدة الذين اعتقد الأمريكيون أنهم سيكونون مخلصين لهم للرمق الأخير، ولكن حساباتهم كانت خاطئة تماماً.

لقد راهن الأمريكيون على شيعة العراق كلهم وكأنهم تيار واحد صلد يمكن التعامل معه بإرضاء ومغازلة “الولي الفقيه” في إيران الذي لم ينظر لشيعة العراق إلا كوسيلة لإشباع غريزته الشعوبية، وإرجاع مجد كورش الضائع قبل أكثر من أربعة عشر قرناً، فقد كانت الإدارة الأمريكية آنذاك غارقة بغطرسة القوة، والتي تؤكد بعض المصادر بأن الرئيس بوش لم يكن يعرف شيئاً عن مصطلحي السُّنة والشيعة، وكانت تحليلاته الساذجة وقرارات إدارته بعيدة عن الحكمة والرؤية السياسية الدقيقة.

وكان من جوانب فشل الأمريكيين في العراق يتمثل في انعدام الرؤية الإستراتيجية لحربها في العراق؛ حيث ملأت الدنيا ضجيجاً عن الحرية والديمقراطية، وهي في قرارة نفسها غير صادقة تماماً، فالأمور بخواتمها كما يقال، حيث إن متطلبات الشعب بحياة كريمة بعد سنوات من الجوع والحرمان كانت أكثر إلحاحاً من الشعارات المزيفة التي ملأ الأمريكيون بها آذاننا.

لقد صحا الشعب العراقي بعد أكثر من عقد من الزمان من الغزو على واقع مرير لا يمكن وصفه من نهب وسلب وقتل وجوع ونقص في الخدمات وفساد لا يمكن وصفه مطلقاً، وثبت أن من تحالف مع الأمريكيين وأهدوهم سيف الإمام على نظير إطاحتهم بصدام لم يكونوا إلا حفنة من اللصوص لا تهمهم لا مصلحة العراق ولا مصلحة الشيعة والتشيع، وخدعوا جماهيرهم بشعارات الحرية الزائفة، حتى إن أحد أبرز المعممين برر ذلك بقوله: إن إقامة الشعائر الحسينية أهم من محاربة الفساد!

إلى جانب ذلك، فقد استشعر التيار المناهض لمبدأ ولاية الفقيه والذي يقف على رأسه السيد السيستاني بأنه قد تم خداعه تماماً، ناهيك عن استغلال صورته وسمعته من الشيعة الذين يقلدونه ويبلغون 70% من مجمل شيعة العالم الاثني عشرية.

إن التيار الذي يمثله السيد العبادي والذي أخذ الضوء الأخضر من الأمريكيين قد شعر بالغبن الشديد الذي لحق بسمعة الشيعة والتشيع، بعد أن بلغت مستويات الفساد حد الجيفة التي لا تطاق، والتي تكللت بانهيار المنظومة الأمنية أمام تنظيم “داعش”، والذي ستثبت الأيام بأن لإيران ومنظومتها السرية والمخابرات السورية لها اليد الطولى في نشأته، وفي عملية معقدة تداخلت فيها مصالح منظومات المخابرات العراقية السابقة التي احتضنها النظام السوري ووظفها لأغراضه الدنيئة، واستغلت الظروف السيئة للسُّنة في العراق لتركب وجه السلفية الجهادية.

إن تمزيق صور خامنئي في كربلاء والنجف وضرب صور المالكي بالنعل العتيقة، وخروج المظاهرات الحاشدة التي تهتف بطرد النفوذ الفارسي الخاص به من الأمور التي لها مغزاها العميق.

فالتيار الشيعي العربي داخل العراق الذي وجد نفسه ضائعاً مادياً ومعنوياً وتاريخياً، خصوصاً بعد تصاعد أصوات تيار الولي الفقيه الذي لم يتردد أحد أقطابه بوصف تيار السيستاني بأنه فارغ من المحتوى وليس لديه شيء!

أما رفض مقابلة السيد السيستاني أخيراً لمقابلة عراب السياسة الإيرانية في العالم العربي قاسم سليماني إنما يمثل رفضاً كاملاً لمبدأ ولاية الفقيه وما جلبه من ويلات وعار على كل مكان دخل فيه، وهو مبدأ طارئ على المذهب الشيعي تم فرضه من قبل الخميني تحت ستار الإسلام، وهو من أشد الناس عداءً للعرب، والذي لم يتردد يوماً بوصف شيعة العراق بأنهم “أهل الكوفة”؛ دلالة على خيانتهم للحسين رضي الله عنه وتخليهم عنه.

إن أمريكا التي قالت: إن القرن الحادي والعشرين سيكون أمريكياً خالصاً غير مستعدة أبداً لتقبل فصل آخر من فصول الهزيمة بالعراق في الوقت الذي يسير به الأمريكيون على مبدأ السيناتور ماكجفرت؛ وهو أن أمريكا لن تذهب في طريق الحرب مرة أخرى، فكان لابد من تشجيعها لهذه الاتجاهات والعمل على إجراء إصلاحات عميقة، والتخلي عن فكرة الدمى واللصوص الذين جلبتهم للعراق، ومع ذلك لم يخلصوا لها، وليس من أجل عيون العراقيين كما يقال، ولكن من أجل إنقاذ سمعتها كدولة تتبجح بالحرية والديمقراطية، ومن أجل مصالحها المهددة بالخطر.

إن ما يحدث في العراق الآن ما هو إلا جزء من استرجاع الهيبة الأمريكية في المنطقة، وطرد النفوذ الروسي – الإيراني في المنطقة، ودلائل ذلك التراجع الحوثي في اليمن وترنح النظام السوري ودخول تركيا الحليف القوي للأمريكيين في المنطقة على الخط وضربها لعناصر حزب العمال الذي يلقى الدعم من إيران وبوادر حربها على “داعش” في سورية.

إن بوادر فشل سليماني في العراق، ومحاولة اجتماعه مع أقطاب وزعماء الشيعة، وتصدي العبادي لحركته، والاستهتار الذي بلغ مداه باحترام العراق كدولة ذات سيادة، إنما يعبر عن مخاوف تيار ولاية الفقيه الجدية من انتقال الظاهرة العراقية عبر الحدود، فربما تمزق صور خامنئي في قم ومشهد وطهران، وتضرب صور روحاني بالأحذية، فالإيرانيون أحسن حالاً من العراقيين، ويمتلكون أحذية فاخرة، وكما قال أحد زوار طهران أخيراً عن أهم مشاهداته هناك: إن الابتسامة تكاد تكون غائبة عن وجوه الإيرانيين الذين ابتلوا بهذا التيار المهووس بعقد التاريخ والقوة والغطرسة، وزج إيران في متاهات الحروب والمشكلات، وجعل سمعة التشيع في الحضيض خصوصاً بعد اقترانه بفساد لم يعرف له التاريخ مثيلاً. 

Exit mobile version