رسائل رمضانية اقتصادية (2 )

إن شهر رمضان فرصة للقادرين لاستجلاء مشاعر المحتاجين، بما يحدثه الصوم من أثر حقيقي في نفوس القادرين إزاء المحتاجين، ومما سبق نشره في الجزء الأول من الموضوع والمنشور على الرابط ” اضغط هنا ” يمكن القول بأن الخصائص الاقتصادية المرتبطة بشهر رمضان هي خصائص كامنة في جوهر الصيام، باعتباره مرتبطاً بقوىً اقتصادية، مثل الاستهلاك والإنفاق والإشباع، ومقدار المنفعة ودرجة الحاجة.

وتحريك هذه الخصائص، وتنشيط فاعليتها هو مهمة البشر، على مستوى الأفراد لضبط استهلاكهم، وعلى مستوى المؤسسات بتوفير الوسائل الكفيلة بحسن توجيه الأموال، وحسن توظيف قوتها الاقتصادية.

ثم إن الصوم من أقوى العبادات على تهذيب النفوس والسمو بالأرواح، إذ فيه إعداد للنفوس، وتهيئة لها على تقوى الله ومراقبته.

وفي الصوم تربية على قوة الإرادة، وكبح جماح الشهوات وأنانية النفوس، ليقوى صاحبها على ترك ما يضره من مألوفاته، أكلاً، وشرباً، أو متاعاً.

والصوم ينمي في النفوس رعاية الأمانة، والإخلاص في العمل، وألا يراعي فيه غير وجه الله، دون مداهنة أو مجاملة.

والصوم يمثل ضرباً من ضروب الصبر، الذي هو الثبات في القيام بالواجب في كل شأن من شؤون الحياة.

ثم إن للصوم أسراراً يحسن العلم بها، وتتبين هذه الأسرار من خلال مراتب الصوم الثلاث، وهي: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص. فصوم العموم: هو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة. وصوم الخصوص يعني: كف النظر، واللسان، واليد، والرجل، والسمع، والبصر، وسائر الجوارح عن الآثام. وأما صوم خصوص الخصوص فهو صوم القلب عن الهمم الدنيئة.

الصوم تربية لروح المسلم وأخلاقه؛ حتى يشعر الغني بحاجة الفقراء والجوعى، فيزداد إيمانه بالله، ويقينه بضرورة آداء حق الفقراء في أمواله، بل ويزيد على ذلك الحق عندما يشعر بألم الجوع والعطش.

ومن الأسف أن بعض الناس اعتاد على بعض العادات السيئة الدخيلة على شهر رمضان، والتي تتمثل في طريقة الإنفاق الاستهلاكي، وهي ليست من الإسلام. فعندما يأتي شهر رمضان نرى أن أغلبية من المسلمين يرصدون ميزانية أسرية أكبر بكثير إن لم تكن ضعف الميزانية في الأشهر العادية، تبدأ بمضاعفة استهلاكها. ويكون النهار صوماً وكسلاً، والليل طعاماً واستهلاكاً غير عادي.

إن الطعام الزائد في الليل وبإفراط يؤدي إلى فقدان الكثير من تلك الفوائد، بل قد ينعكس ذلك بشكل سلبي على صحة الإنسان، فإذا أكل كثيراً في الليل يصبح كسلاناً بسبب تخمر الطعام في جهازه الهضمي.

والنصيحة التي يمكن أن نوجهها إلى المسلمين هي عدم التفريط في تناول الطعام في ليالي رمضان، والتزام القوام والاعتدال، ذلك أن أحد أسباب الكارثة التي حلت بنا اليوم هي البطر والإفراط في الاستهلاك، والتبذير والبعد عن الدين القيم. قال تعالى: (وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) (سورة النحل، الآية: 112). وكلنا يعلم قصة قارون كما وردت في القرآن الكريم (القصص/76ـ83)، وفرعون وغيرهم الذين جحدوا نعم الله.

فالإسراف والتبذير في الاستهلاك يعتبر سوء استخدام للموارد الاقتصادية، والسلع التي أنعم الله بها على العباد لينتفعوا بها وهو عمل يذمه الإسلام ذماً كبيراً، حيث وصف الله المبذرين بأنهم إخوان الشياطين ، لما لهذا العمل من آثار سيئة   لا تقتصر على صاحبها الذي مارس الإسراف بل تمتد لتشمل المجتمع والعالم.

إن للصوم أبعاداً اقتصادية عظيمة، منها ما يدركها العقل البشري، كأثره على صحة الإنسان مثلاً، الثروة البشرية، ومنها ما لا يستطيع العقل البشري إدراكه. فطوبى لمن اقتدى، في صيامه وقيامه بمحمد صلى الله عليه وسلم.

إن من واجب المسلم أن يعمل على توفير ما تقوم به الحياة من مأكل، ومشرب، وملبس، ومسكن… إلخ من الضروريات، لصيانة دِينه، ونفسه، ونسله، ولحفظ عقله وماله. كما يفترض في المسلم أن يتجنب النزعة الاستهلاكية قدر الإمكان. وإن كان هذا يختلف من شخص لآخر، بحسب يساره المادي، وبقدر زهده في الدنيا ومباهجها، إلا أن هناك حدوداً لذلك على كل حال ينبغي مراعاتها.

إن الإنسان أهم بكثير من أي نموذج أو نظرية أو تفسير، هذا ما اكتشفه علماء الاقتصاد أخيراً، فالإنسان هو الذي يقرِّر مستوى رفاههِ ودرجة ثرائه، وكل الأمر متوقف على قراره وسلوكه، فبإمكانه إن أراد أن يكون معتدل الاستهلاك فيصبح حجم الوفر لديه بما يمكنه أن يصبح ثرياً، وبإمكانه إنْ كان نهمَ الاستهلاك كما هو حال الفرد في أغلب المجتمع الغربي أن يأكل ثروته.

وبعد أن كان علماء الاقتصاد مُصرين على أن الدولة وسياساتها هي العنصر الأهم في العملية الإنتاجية عادوا ليقرروا أن المستهلك والمنتج هم أسيادُ اللعبة. فيوم يُربي المجتمع عادات الاستهلاك ويهذبها ويوجهها، فإن عملية ترشيد واسعة ستؤدي إلى إنتفاع هذا المجتمع بخيراته على أكمل وجه.

وهكذا فمفتاح حل الأزمات الحقيقي إنما يكمن في التربية الاستهلاكية، وهو مفهوم حديث نسبياً على المجتمعات الغربية، التي جعلت من الحرية المطلقة بلا ضوابط إلهاً يُعبَدُ من دون الله. فلقد كان هناك من يعتبر هذا النمط من التربية إعتداءً غير مبرر على حق المستهلك في أن يستهلك ما يشاء، وقت ما يشاء، وكيفما يشاء. ولكن اكتشفت العديد من المجتمعات أن تدليل المستهلك إلى هذا الحد باهظ الثمن، وأنها إذا استطاعت أن تلبيه اليوم، فقد لا تستطيع ذلك في الغد.

ولذلك عادت مفردات التدبير والتوفير، وحسن التصرف في المال تشق طريقها إلى الدراسات الاقتصادية الحديثة.

ووجدنا من الاقتصاديين من يقول: لقد تحدثنا كثيراً عن قوانين الاقتصاد، ورسمنا المزيد من المنحنيات والمعادلات، ولكننا نسينا المتغير الأكبر الذي يقرر صلاحية أو عدم صلاحية كل ما تحدثنا عنه وتوقعناه وهو الإنسان.

إن رمضان هو محاولة لصياغة نمط استهلاكي رشيد، وعملية تدريب مكثفة تستغرق شهراً واحداً تفهم الإنسان أن بإمكانه أن يعيش بإلغاء استهلاك بعض المفردات في حياته اليومية، ولساعات طويلة كل يوم. وإنه محاولة تربوية لكسر “النهم الاستهلاكي” الذي أجمعَ علماء النفس المعاصرون أنه حالة مرضية، وأن مجال علاجه في علم النفس وليس علم الاقتصاد. وإن كان يصيب بتأثيراته أوضاع الاقتصاد وأحواله.

Exit mobile version