الصين والحرب في اليمن.. عدم الانحياز والحل السلمي (1 ـ 2)

يُظهر موقف بكين الرسمي كثيرًا من الحذر والانتقائية حيال الحرب في اليمن؛ إذ كرر الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الصينية دعوة بلاده جميع الأطراف إلى وقف إطلاق النار ودعوة الأمم المتحدة إلى لعب دور قيادي في حلِّ الصراع من خلال المفاوضات السياسية. ولم تقدم بكين ما يكفي من التوضيح بشأن موقفها من الصراع، ورفضت أن تنحاز لأي جانب عند إلحاح المراسلين الصحفيين في السؤال عن موقف الصين من التدخل العسكري بقيادة السعودية. في الحقيقة، اقتصر تأكيد بكين على أنها تدعم حلًّا سلميًّا يستند إلى قرار مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، ومبادرات مجلس التعاون الخليجي، ونتائج مؤتمر الحوار الوطني، واتفاقية السلم والشراكة الوطنية. ويُظهر مثل هذا الموقف أن بكين تعمَّدت أن تخفي ميولها السياسية وتسعى لأن تلعب دور وسيط السلام في الأزمة اليمنية، وهو موقف مقبول من جميع الأطراف.

وعلى الرغم من ذلك، مارست الصين تأثيرًا على السعودية من أجل وقف الضربات الجوية؛ ففي 18 إبريل الماضي نشرت وزارة الخارجية الصينية خبرًا على موقعها الرسمي يفيد بأن الرئيس الصيني “شي جينبينج” أجرى اتصالًا هاتفيًّا مع الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز ليُعرب عن مخاوف الصين من الأزمة في اليمن ويحث على حلِّ الصراع عبر الوسائل السياسية. ويشير النشر المقصود لهذا الخبر، دون سواه، إلى أن أكثر ما يهم بكين هو وقف التدخل العسكري. ومن هنا، فإن موقف الصين لا يُعدُّ محايدًا بالكامل دون أية مرجعيات سياسية، ولكنه بالأحرى يميل بشكل ضمني إلى وجهة نظر كلٍّ من إيران وروسيا، وهذا يفسِّر الحذر الذي أبدته بكين في تعاملها مع هذه المشكلة.

 

مصالح بكين في المنطقة

ترى الصين أن “حماية استثماراتها الاقتصادية وسلامة عامليها في اليمن” يمثِّل أكثر مصالحها عرضة للتهديد نتيجة الحرب الأهلية في البلاد، وبحسب إحصاءات نشرتها وزارة الخارجية الصينية، فإن الصين لديها 14 مشروعًا في اليمن يعمل فيها نحو 460 عاملًا وتتركز في مجالات استخراج النفط، والاتصالات، والإنشاءات، والطرق والجسور، ومزارع الأسماك. هذا ويُعَدُّ حجم الاستثمار الصيني في اليمن صغيرًا إلى حدٍّ ما، وكانت بكين بصدد تقويته وتوسيع استثماراتها الاقتصادية هناك، ولكن بسبب تفاقم الأزمة في اليمن، أجْلَت رعاياها وأغلقت سفارتها بشكل مؤقت منذ السادس من إبريل 2015.

وتتخوف الصين من احتمال تعثر طرق إمداد النفط الخام في المنطقة، ليس بسبب إمكانية انقطاع واردات النفط من اليمن، إنما بسبب المخاطر التي قد تنجم عن سيطرة الحوثيين على ميناء عدن وإعاقتهم لممرات النقل البحري في خليج عدن. فمن الناحية الإستراتيجية، يعتمد 50% من استهلاك الصين للنفط على الواردات، فهي تستورد 12% من استهلاكها من السعودية، و11% من إيران، و13% من كلٍّ من العراق والكويت وعُمان مجتمعةً. لذا تحرص الصين على علاقات جيدة مع كل الأطراف في هذه المنطقة، وتعتبر أن السيناريو الأسوأ هو تطور الصراع العسكري في اليمن بما يؤدي إلى عرقلة طرق نقل النفط عبر مضيقي هرمز وباب المندب.

كما أن احتواء نمو “التشدد الإسلامي” يُعدُّ مصلحة مهمة في سياسة بكين تجاه الشرق الأوسط عمومًا. ومع ذلك تتعامل الصين بحذر كبير مع هذه القضية حتى لا يتم تفسير مواقفها بشكل خاطئ سواءً من قِبَل الدول الغربية أو العالم الإسلامي. وعلى الصعيد المحلي، فإن “موجة أحداث العنف” في شينجيانج (تركستان الشرقية) مستمرة منذ عام 2009، وتدَّعي الصين أن هذه النشاطات “الإرهابية” لها ارتباطات بتنظيم القاعدة. وزعم مسؤولون صينيون أخيرًا أن بعضًا من أقلية الإيجور المسلمة الذين انضموا إلى تنظيم الدولة قد عادوا إلى الصين لينخرطوا في نشاطات “متشددة وإرهابية”. واستنادًا لخلفية الحرب الأهلية في اليمن، يبدو في حكم المؤكد أن الصين تراقب باهتمام نمو “الإرهاب” داخل اليمن، وتحديدًا بعد أن فقدت حكومة الرئيس هادي سيطرتها الفعَّالة على معظم أراضي البلاد. وعلى الرغم من التقاء مصالحها مع الولايات في محاربة الإرهاب، فإن الصين لم تنضم بشكل رسمي إلى التحالف العالمي الذي تقوده الأولى في “الحرب على الإرهاب”، لأن الصين ترى أن عليها أن تحتفظ باستقلالها في صياغة سياساتها في “محاربة الإرهاب” دون أن تقع في فخ الصدام بين الغرب والعالم الإسلامي.

أما القضية الأخيرة في هذا السياق فتتعلق بسياسات الدول العظمى؛ إذ من المعروف أن الصين تتبنى إستراتيجية توازن ضد السيطرة الغربية في الشرق الأوسط، ومن ذلك أن الصين اعتادت أن تصطف إلى جانب روسيا في الأمم المتحدة للحدِّ من نفوذ الولايات المتحدة وحلفائها بشكل استراتيجي؛ فالصين لم تستخدم حق النقض فقط ضد إحالة القضية السورية إلى المحكمة الجنائية الدولية في الأمم المتحدة، ولكنها أيضًا تتبنى وجهات نظر مختلفة فيما يتعلق بالعقوبات على إيران والقضية الفلسطينية، ومع ذلك فإن الصين تقف إلى جانب الغرب لتضمن أن إيران لن تسعى إلى امتلاك أسلحة نووية. ويَظهر التعقيد الذي تتميز به سياسات الصين تجاه الشرق الأوسط في الطريقة التي تُوازن فيها الصين مصالحها المشار إليها في الأزمة اليمنية، فمن جهة ستستمر الصين في الوقوف إلى جانب كل من روسيا وإيران في موازنة الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط، ومن جهة ثانية، فإن الصين لا تريد أن ترى اليمن مقسما ومضطربًا لأن ذلك يمكن أن يحوله إلى عامل تفجير في الشرق الأوسط.

 

اتجاه الخارجية الصينية

تتبع الصين منذ تسعينات القرن الماضي إستراتيجية “دينج شياو بينج” في سياستها الخارجية تحت شعار: “لا يضرُّنا أن ننبطح بانتظار فرصتنا السانحة”؛ وذلك من أجل تحقيق تحديث سريع الخطوات دون استفزاز أو إثارة القوى العظمى التي يمكن أن تعوقه، ويقوم جوهر هذه الإستراتيجية على تجنُّب الصين أي استهداف لها بوصفها قوة تهديد أو تصحيح للوضع القائم على الصعيد الدولي من قبل القوى الكبرى. غير أن صعود الصين في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2009، قد أحدث نقاشًا بشأن تغيير السياسة الخارجية الصينية في أوساط علماء العلاقات الدولية، تركَّز فيما إذا كان تفكير دينج مازال يخدم مصالح الصين بالطريقة المثلى. وتحولت هذه النقاشات وغيرها إلى أجندة سياسية جديدة لبكين تحت شعار “نموذج جديد للعلاقات بين القوى العظمى”، ويمكن تفسيرها بطرق مختلفة إلا أنها تتميز عن سياسة دينج في أن الصين تسلك طريقًا أكثر تأكيدًا فيما يتعلق بانخراطها في السياسات الدولية، حتى إن بعض العلماء يقترحون على الصين أن تُقِرَّ بوضعها كقوة عظمى وأن تتصرف كلاعب مسؤول بدلًا من إنكارها لهذا الدور.

وفي أعقاب صعود “شي جينبينج” إلى هرم السلطة في عام 2013، قامت الصين بخطوات مهمة باتجاه إدماج هذه الأفكار في سياستها الخارجية، ويتجلَّى هذا الاتجاه في ثلاثة من التغييرات التي جرت مؤخرًا؛ أولها: أن الصين تسعى إلى الاشتراك بفاعلية في المؤسسات متعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة للانخراط في الشؤون الدولية، وثانيها: أن الصين تنوي زيادة تأثيرها الدولي عن طريق اقتراح مبادرات إقليمية على الصعيد الاقتصادي والسياسي مثل “حزام واحد وطريق واحدة”، و”البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية”، وثالثها: أن الصين باتت أكثر حزمًا فيما يتعلق بالأراضي المتنازع عليها، وخاصةً في بحر الصين الجنوبي من خلال استصلاح الأراضي وتشييد مدرج عسكري ضخم لهبوط الطائرات.

وبالنظر إلى التغير في السياسة، فإن المصالح الأهم المتصلة بالأزمة اليمنية تتمثل في المقام الأول في تأمين واردات النفط الخام ومن ثم الاعتبارات السياسية في مجال سياسات القوى العظمى. ومن أجل الحفاظ على علاقات ملائمة مع جميع الأطراف المعنية، صوَّتت الصين لصالح قرار الأمم المتحدة رقم 2216 بشأن اليمن، والذي يحظر مبيعات الأسلحة لمقاتلي مليشيات الحوثيين. ولكن في غضون ذلك، حثَّت بكين بشكل علني على وقف الضربات الجوية بقيادة السعودية من أجل معادلة الأثر السياسي لتصويتها في الأمم المتحدة. وترغب الصين من ذلك في إيصال رسالة مفادها أنها لم تقف إلى جانب أي طرف ولكنها أكدت في المقابل على أهمية الحل السلمي عبر مفاوضات سياسية متعددة الأطراف.

المصدر: مركز الجزيرة للدراسات

Exit mobile version