سعد سعيد الديوه جي
مما لا خلاف حوله بأن أهم الدوافع المحركة للسياسة الأمريكية هي المصالح الاقتصادية الممتزجة بغطرسة القوة وبعقيدة الآباء المؤسسين (البيوريتان – المتطهرين) الذين أسسوا الولايات المتحدة على جثث ملايين القتلى من السكان الأصليين، لتكون أمريكا أقوى أمة في التاريخ تتكون من المهاجرين، فبعد سقوط جدار برلين في نوفمبر 1989م والتي يعتبرها المؤرخ البريطاني تيموثي غارتون أهم سنة في تاريخ العالم بعد اندحار ألمانيا الهتلرية عام 1945م وما تبعها من تفكك الاتحاد السوفييتي وحلف وارشو، أصبحت الولايات المتحدة اللاعب المتفرد بالسياسة العالمية، وفتحت شهيتها على مناطق النفوذ والنفط خصوصاً بعد ما فتح لها صدَّام باب الشرق الأوسط على مصراعيه عندما غزا الكويت عام 1990م، تزامن ذلك مع نهاية الحرب الباردة وتفرد الولايات المتحدة بزمام المبادرة في السياسة الدولية حتى إنها لم تنتظر موافقة أحد لاستكمال أحلامها في الشرق الأوسط بحجة تحرير العراق عندما اجتاحته عام 2003م.
انقلبت العملية برمتها إلى فشل ذريع، وليتحول العراق من دولة دكتاتورية فاشلة إلى دولة مضطربة تعمها الفوضى والعنف والفساد؛ مما دفع بهنري كيسنجر للتصريح بأن “فشل الولايات المتحدة في العراق يعد فشلاً ذريعاً للحضارة الغربية”! بينما بررت الإدارة الأمريكية آنذاك اندلاع النهب والسلب والقتل على لسان رامسفيلد وغيره بأن الشعب العراقي أصبح يمارس حريته، وبعد سقوط ذريعة وجود أسلحة الدمار الشامل وتفاقم المشكلات الطائفية لتصبح على ما هي عليه الآن والتي صارت وبالاً على الشرق الأوسط والولايات المتحدة، والعالم كله ولم تستطع الولايات حلها إلا بإعلان عام 2008م الذي ينص على الخروج من العراق عام 2011م بدون أن يعلم العراقيون بأن الأمريكيين قد احتفظوا بحق الرجوع متى شاؤوا.
قبل احتلال العراق الذي لم يدرس بعناية إستراتيجية كاملة ولغياب النية الصادقة لإرساء الديمقراطية والحرية، كان الأمريكيون يخططون لجعل القرن الحادي والعشرين قرناً أمريكياً خالصاً، فابتدؤوا بأفغانستان ثم العراق وحلت الحرب على الإرهاب محل الحرب الباردة، ولكن الأمور انقلبت رأساً على عقب ليصبح العراق مقبرة لهذه الأحلام، وخصوصاً بعد التململ الروسي – الصيني من سياسة الغطرسة الأمريكية، وعدم إدراك الساسة الأمريكان بأن محاربة الإرهاب أصعب بكثير من محاربة دولة معينة، وكان للتدخل الروسي ومن خلال تعاونه مع إيران أثر في العملية.
اختلطت عوامل الفشل بشكل لا يليق بدولة عظمى لها إمكانيات غير محدودة في جميع النواحي العلمية والعسكرية والبحرية والاقتصادية، ليصبح العراق مقبرة المخططات الأمريكية، ولترتفع راية المصالح البترولية وتختفي كل الادعاءات الأخرى بشأن الحرية والديمقراطية.
وكما تقول الباحثة جنين آرويديل: إن عدداً كبيراً من الأمريكيين صار يدرك بأن الاحتلال الأمريكي للعراق يدار إلى حد كبير بواسطة جيش من المرتزقة التابعين لشركات المقاولات المنوطة بتوريد الجنود، فقد كان عدد الشركات الخاصة المنوطة بتوريد الجنود عام 2007م أكبر من عدد الفرق العسكرية الأمريكية المشاركة في الحرب.
فقد كان هنالك 160 ألف جندي مقابل 180 ألف فرد في شركات المقاولات المجهزة؛ مما رفع تكاليف الاحتلال إلى أرقام فلكية قدرت لأكثر من تريليوني دولار؛ ما أدى إلى نشوب الأزمة الاقتصادية عام 2008م.
ولما كان الفشل غير مقبول في القاموس الأمريكي، ولما يتمتع به العراق أهمية إستراتيجية بالنسبة لأمريكا، فهو يقع في وسط الشرق الأوسط، ويضم أكبر نسبة احتياطي نفطي في العالم، فقد ارتأت الإدارة الجديدة تصحيح هذا الفشل حتى لو اضطرت لتغيير كل الأسس التي قامت عليها الحكومات التي تلت الاحتلال.
إن واقع العراق الحالي كبلد مهدم ومدمر وفقدان مئات الآلاف لأرواحهم وملايين النازحين والمهجرين هو دلالة لا جدال حولها بأن الأمر في معظم جوانبه يعود لفشل الولايات المتحدة والتي اعتقد الكثيرون عام 2003م بأنها ستخلق كوريا جديدة أو نموذجاً يابانياً بالشرق الأوسط.
وينقل نعوم تشومسكي عن مقالة لنبر روش بعنوان “موت العراق” جاء فيها: لقد ذبح العراق ولن ينبعث من جديد، فقد مثل الاحتلال الأمريكي كارثة أسوأ من احتلال المغول، حتى أصبح بصيص الأمل الوحيد هو احتواء الأضرار.
وبعد أن شيدت الولايات المتحدة أكبر سفارة لها في العالم ووقعت على اتفاقية الانسحاب عام 2008م، ثم نفذته ظاهرياً عام 2011م، واحتفظت بشرط العودة في حالة تأثر مصالحها للضرر، أو لردع أي عدوان خارجي، فلا بد لسيناريو جديد لمرحلة جديدة أن يبدأ في العراق ولو على أشلاء آلاف الضحايا، حيث يقول أحد الجنرالات: إننا لا نعد الجثث عندما نريد تحقيق أهدافنا، وحدث ما توقعته الولايات المتحدة عندما سكتت عن أخطاء الحكومة السابقة؛ فرجعت للتدخل بالقدر الذي يضمن لها مصالحها الإستراتيجية، ولتبعد الخطر الروسي – الإيراني عن كل المنطقة، حيث بدأت ملامح المشروع تكتمل بعد “عاصفة الحزم” في اليمن وتغير الأوضاع العسكرية في سورية.
إن تدخل الولايات المتحدة ليس غريباً الآن إذا عرفنا بأن الرئيس السابق بوش كان قد أصدر “إعلان توقيع” تبع الاتفاق الأمريكي العراقي رفض فيه تغيير تقييد التمويل لبناء أي منشآت أو قواعد عسكرية من أجل تركيز القوات المسلحة الأمريكية في العراق بشكل دائم أو لفرض السيطرة الأمريكية على موارد النفط في العراق.
ومما لاشك فيه أن الدور الإيراني كان أحد الأسباب، وأخيراً عندما سقطت الموصل في 10/6/2014م وهي ثاني كبريات مدن العراق وما تبعها من أحداث جسام وتنبؤ معظم الصحف الرئيسة في العالم ببداية شرق أوسط جديد، فإن ذلك لا يعني إلا محاولة من الولايات المتحدة لتجاوز آثار فشلها في العراق وبناء دولة تخدم مصالحها التي تعرضت للخطر الشديد بعد انسحابها الظاهري من العراق عام 2011م.