جــنـــرال «الوحش الطائفي» في العالم العربي

على الرغم من الروايات الأسطوريّة التي تنسج عن قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني «قاسم سليماني»، فإنّ غالبيّة ما يتم تصنيفه على أنه «منجزات» خارجية له إنما تمّ في جزء كبير منه بمساعدة الأمريكيين أنفسهم، فـ«سليماني» كان من أبرز المتحمسين للإطاحة بنظامي «طالبان»، و«صدّام»، حتى أنّه كان أكثر حماساً من الأمريكيين أنفسهم وفق ما ذكره السفير الأمريكي المخضرم «ريان كروكر»، وهو من أبرز الدبلوماسيين الأمريكيين الذين خدموا في منطقة الشرق الأوسط، حيث خدم كسفير في كل من أفغانستان وباكستان وسورية والعراق والكويت ولبنان، في أصعب الأوقات.

ووفقاً لشهادة «كروكر» الذي كان حاضراً في الاجتماعات السريّة التي جمعت الوفد الأمريكي مع نظيره الإيراني قبيل غزو أفغانستان عام 2001م، فإن الجانب الإيراني ومرجعيته «قاسم سليماني» كان يستعجل الأمريكيين لضرب «طالبان»، ولاحظ «كروكر» وهو مندهش للغاية أنّ «سليماني» كان متعاوناً ومرناً وبراجماتياً، وقدم معلومات هائلة عن «طالبان» ونصائح لضربهم، لقد كان التعاون الأمريكي – الإيراني هائلاً قبيل وخلال ضرب «طالبان» واحتلال أفغانستان، وكذلك كانت النتائج كبيرة لأمريكا وإيران، لكنّ تصريح «بوش» الابن الذي جعل إيران من بين دول محور الشر ألحق الضرر بهذا التعاون، وقال «سليماني» وفقاً لـ«كروكر»: إنّه يشعر بالخيانة.

وما حصل في أفغانستان، تكرر في العراق عام 2003م؛ إذ كان التعاون الإيراني مع الأمريكيين عند الغزو هائلاً باعتراف القادة السياسيين الإيرانيين أنفسهم، وما حصل آنذاك بين الإيرانيين والأمريكيين يتم تكراره اليوم، ولكن بشكل أوسع ووفق أجندة واضحة للرئيس الأمريكي «أوباما» تقضي بجعل هذا التعاون رسمياً، بحيث يتم تتويجه باتفاق نووي شامل لينقل العمل من تحت الطاولة إلى فوقها.

«سليماني».. وصناعة المليشيات

لقد كانت تجربة إنشاء الحرس الثوري لـ«حزب الله» في لبنان باهرة، وقد كان من مهام الحرس الثوري كما هو معلوم المساهمة في نشر الثورة الإيرانية وإنشاء «أحزاب الله» في المنطقة العربية بأسرها، ولكن وبسبب وقوف العراق قديماً سدّاً منيعاً أمام التوسع الإيراني باتجاه الخليج العربي وبلاد الشام، تأخر هذا العمل حتى تمّ غزو العراق عام 2003م، وعندها عاد التركيز على إنشاء المليشيات الشيعية المسلحة في العراق والمنطقة.

وبعد الغزو أصبح «سليماني» الحاكم الرسمي عملياً للعراق، وقد استغل في تلك الفترة سطوته على العراقيين الشيعة الذين كان معظمهم ضمن «فيلق بدر» الذي أنشأه «الخميني» في إيران من قبل عراقيين شيعة لمحاربة «صدام»، ولما كان التواجد الأمريكي في العراق كبيراً، خشي الإيرانيون أن يكونوا البلد التالي على لائحة واشنطن، ولذلك فقد وظّف الإيرانيون بطريقة غير مباشرة مقاومة الفصائل السُّنية ضد الاحتلال لصالحه، وطلب «قاسم سليماني» – على ما تنقل التقارير حينها – من «الأسد» السماح للجهاديين السُّنة بدخول العراق لمهاجمة الأمريكيين، وعندما خرجت الأمور عن السيطرة وبدأ هؤلاء بمهاجمة الشيعة، عاد التواصل بين الأمريكيين والإيرانيين بقيادة «سليماني»، فقد كان هدفهم واحداً وهو تدمير هذه الجماعات السُّنية وتقوية الشيعة لتولي زمام السلطة في العراق.

بحلول العام 2006 و2007م، كان «فيلق القدس» بقيادة «سليماني» قد أشرف على تشكيل عدد من المليشيات الشيعية القوية، من بينها «فرق الموت» التي ارتكبت المذابح الطائفية بحق السُّنة، وبحلول العام 2013م، أصبح العراق يضم ما يزيد على 50 مليشيا شيعية، أقواها مرتبط مباشرة بـ«سليماني» عبر «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري؛ كمليشيا «عصائب أهل الحق»، و«حزب الله العراق»، و«فيلق بدر»، و«طلائع سرايا الخراساني» وغيرهم ممن شاركوا في ارتكاب مجازر غير مسبوقة بحق السُّنة في العراق تساوي بوحشيتها ما ارتكبه تنظيم «داعش» بل تتفوق عليه في كثير من الأحيان خاصة أنّها ارتكبت مجازرها قبل وأثناء وبعد تشكيل تنظيم «داعش»، ولاسيما مؤخراً تحت مسمى «الحشد الشعبي» الذي تم تشكيله بفتاوى مذهبية بحجة مكافحة الإرهاب.

وقد اعتمد «سليماني» في إنشاء أقوى هذه المليشيات التي تخوض الحرب على العرب السُّنة في كل مكان من بيروت إلى اليمن على إرهابيين معروفين بتبعيتهم المباشرة لإيران، وبصلاتهم القوية بنظام الولي الفقيه والحرس الثوري، لعل أبرزهم على سبيل المثال لا الحصر:

1- هادي العامري، وهو مجرم حرب، قائد «فيلق بدر» الذي تأسس في إيران، والقائد الحالي لمليشيات «الحشد الشعبي»، وسبق له وأن تعين بمنصب وزير ومنصب نائب حالياً!

2- أبو مهدي المهندس جمال جعفر إبراهيم، وهو إرهابي يحمل الجنسية الإيرانية، ويشغل حالياً منصب نائب قائد الحشد الشعبي، وهو متهم بتفجير السفارتين الأمريكية والفرنسية في الكويت في 12 ديسمبر 1983م، ولعب دوراً في تأسيس «عصائب أهل الحق»، و«حزب الله العراقي»، يظهر المهندس الآن تحت سمع وبصر الأمريكيين (أقل من بضعة مئات من الأمتار عن السفارة الأمريكية في بغداد) في مؤتمرات صحفية دورية في بغداد ليتحدث عن إنجازات هذه المليشيات وما حققته من انتصارات على «داعش».

3- مصطفى بدر الدين، وهو صهر القائد العسكري لـ«حزب الله» عماد مغنية، والتي تم قتله عام 2008م في دمشق، سبق وأن تم اعتقاله في الكويت عام 1983م بتهمة ارتكاب سلسلة من الأعمال الإرهابية وحكم عليه بالإعدام، ولكنّه فرّ من السجن إبّان الغزو العراقي للكويت، تمّ تعيينه بدلاً من عماد مغنيّة، وهو متّهم بالإشراف على عملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، أشارت عدّة تقارير أنّه شارك مع «سليماني» في قيادة الهجوم الذي حصل مؤخراً في الجبهة الجنوبية في سورية (مثلث القنيطرة، درعا، الجولان).

في آخر تقرير صدر عن منظمة «هيومن رايتس ووتش» في مارس 2015م، تحت عنوان «بعد التحرير حلّ الدمار: المليشيات العراقية وما بعد آمرلي»، وثّقت المنظمة قيام المليشيات الشيعية، التي شنّت الهجوم على مدينة آمرلي بقيادة الحرس الثوري و«سليماني» وبغطاء جوي أمريكي، تدمير 47 قرية سُنية، منها اثنتان على الأقل تمّ مسحهما من الوجود تماماً، بالإضافة إلى أعمال نهب وحرق المنازل وتفجير الممتلكات والمساجد والمباني العامة، علماً بأن تقريراً سابقاً عن نفس المنظمة في يوليو 2014م تحدّث بالتفصيل عن المجازر التي ارتكبتها هذه المليشيات بحق المدنيّين من السُّنة.

وكذلك في سورية، فقد وثق تقرير صادر عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان في يوليو 2014م تحت عنوان «المليشيات الشيعية المقاتلة في سورية» وجود 13 مليشيا شيعيّة عراقيّة على الأقل تقاتل في سورية (بالإضافة إلى «حزب الله» اللبناني والحرس الثوري والمتطوعين من إيران ومناطق أخرى في مليشيات شيعية منفصلة) تضم ما لا يقل عن 35 ألف مقاتل شيعي، كما وثّق التقرير الجرائم والمذابح التي ارتكبتها هذه المليشيات الطائفية المسلحة التي تعمل بشكل مباشر أو غير مباشر تحت إشراف الحرس الثوري الإيراني بحق الشعب السوري، وتتضمن الذبح وإلقاء الناس في الآبار أحياء ودفنهم أحياء وإحراقهم أحياء، وخنقهم وتعذيبهم واغتصاب النساء وبقر بطونهم وقتل الأطفال وتقطيعهم.

«سليماني» تحت قبعة الشيطان الأكبر

يدرك الأمريكيون حجم الخدمات الهائلة التي قدّمها لهم الجانب الإيراني لاسيما «سليماني» في أفغانستان والعراق ومحاربة الحركات السُّنية في المنطقة، وعلى الرغم من أنّه قد ألحق بعض الأذى بالأمريكيين خلال فترات متقطعة، فإنّ ذلك كان بهدف تحديد قواعد اللعبة ليس أكثر، وهذا ما يفسّر ترك الأمريكيين له عدّة مرات رغم قدرتهم على قتله.

فبالرغم من كل الأساطير التي تتحدث عن تخفّيه وتنقّله السري بين الدول، كان «سليماني» تحت أعين المخابرات الأمريكية و«الإسرائيلية» عدّة مرات، «سليماني» نفسه زار المنطقة الخضراء الأمريكية في بغداد قبل سنوات ولم يفعل الأمريكيون أي شيء لمنعه أو الإمساك به أو قتله، وفي مناسبة أخرى يقول الجنرال الأمريكي «ماكريستل» الذي عمل في العراق: إنّهم علموا بأنّ قائد الحرس الثوري الجنرال «محمد علي جعفري» سيعبر في موكب من الحدود الإيرانية إلى داخل العراق، وأنّ «سليماني» موجود معه، ولكّنهم سمحوا بعبوره ولم يعترضوه كي لا يشتبكوا مع الأكراد الذين كانوا يستقبلونه.

في التقرير الذي نشرته صحيفة «الواشنطن بوست» بتاريخ 30 يناير 2015م تحت عنوان «السي آي إيه والموساد قتلوا مسؤولاً رفيعاً في حزب الله بتفجير سيارة»، وردت أول رواية متكاملة للكيفية التي تم فيها قتل عماد مغنيّة، المسؤول العسكري الأرفع في «حزب الله» والمتهم بالقيام بعمليات إرهابية في الكويت منذ الثمانينيات، الرواية التي سربها على ما يبدو جهاز أمني، تذكر بكل وضوح في إحدى فقراتها بأنّه وخلال العملية التي تم تنفيذها لقتل عماد مغنية عام 2008م، كان «سليماني» متواجداً في المكان نفسه، وكان بإمكان «الموساد» و«السي آي إيه» اغتياله، وكل ما كان عليهم فعله هو الضغط على الزناد، ولكنّهم لم يفعلوا ذلك لأنّهم لم يمتلكوا التصريح القانوني لفعل ذلك، ولم يكن هناك أمر رئاسي بذلك كما يقول المسؤول الرسمي الأمني في النص المنشور!

لم تمنع قائمة العقوبات الطويلة الدولية والأمريكية والأوروبية المفروضة على «سليماني» ومنها القرار الصادر عن مجلس الأمن (1747) عام 2007م، ولائحة العقوبات الأمريكية 18 مايو 2011م، ولائحة العقوبات الأوروبية 24 يونيو 2011م من أن يعمل الأمريكيون معه، اليوم يعمل «سليماني» بحريّة تامة تحت الرادارات الأمريكية وبالتنسيق معهم، ويقود عمليات اجتياح برّية وجوية في عمق العراق وسورية لأول مرة منذ إنشاء الجمهورية الإيرانية؛ وعليه فليس بمستغرب فهم الرواية الأمريكية السابقة.

مواجهة الطاعون الإيراني

الحملة المليشياويّة الشنيعة التي يشنّها نظام الملالي بقيادة «سليماني» على العرب، والتي نجحت حتى الآن في السيطرة على القرار في أربعة بلدان عربية؛ هي لبنان وسورية والعراق واليمن، وأدّت إلى مقتل مئات الآلاف من المدنيين، وجعلت أكثر من 15 مليوناً في هذه البلدان بين لاجئ ونازح ومشرد لم تقف بعد، فعين إيران على توسيع نفوذها في البلدان العربية الأخرى.

هذا الوضع خلق حالة من جرس الإنذار الإقليمي لدى عدّة دول إقليمية، أبرزها تركيا، والمملكة العربية السعودية، صحيح أنّ الوقت أصبح متأخراً لمواجهة هذا التمدد الإيراني المغطى أمريكياً بفعالية، لكن كما يقال: «أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً»، لا شك أنّ المهمة ستكون صعبة الآن خاصة مع إمكانيّة أن تصل واشنطن وطهران إلى اتفاق نووي يعقّد المعطيات الإقليمية، ويوسّع الفجوة في ميزان القوى، لكنّ التحرّك التركي – السعودي يهدف الآن إلى تبريد المواجهات الأخرى، وإعطاء الأولويّة لهذا الخطر الجارف الذي يحمل معه أيضاً صعوداً في عمل حركات التطرّف المسلّحة.

لقد جرى وضع اللبنات الأساسية للتفاهم التركي – السعودي في الاجتماع الذي جمع الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» بالملك السعودي «سلمان» في الرياض بداية هذا الشهر، حيث بدا التشخيص للمشكلات التي تعاني منها المنطقة من توسّع النفوذ الإيراني بشكل غير مسبوق، وصعود حركات التطرّف المسلح واحداً، وبدا التفاهم واسعاً على الملفات السورية والعراقية واليمنيّة بالتحديد، لكن هذه الأجندة الثنائيّة ستواجه مصاعب في طريق عملها لمواجهة الأخطار الإقليمية؛ أولها التفتت العربي نفسه الذي يعرقل توسيع الأجندة الثنائية لتشمل دولاً إقليمية أخرى، وتشكّل جبهة لموازنة قوّة المحور الإيراني، خاصّة أن بعض المحاور العربية تعمل الآن ضد التعاون الإستراتيجي التركي – السعودي.

 

Exit mobile version