النائب: سميرة ضوايفية
مرة أخرى العمق الهوياتي للمجتمع الجزائري ينجح في الاختبار ويرغم صانع القرار على الرضوخ لمنطق “الإسلام دين الدولة” ويحبط عمل من أراد له سكرة على المقاس، كان تأكيداً عملياً لما كان بالأمس القريب حينما تحرك كل الفاعلين بلا استثناء ليعلنوا منطق “أنا أتبع محمد صلى الله عليه وسلم”، ببساطة الأشياء الشعب الجزائري حسم السجال في مسألة مشروع المجتمع، في بعده القيمي على الأقل، إذ تبقى الممارسة في مجموعها بعيدة عن روح النص وإسقاطاته العملية عدا ما تعلق بالعقائد وبشكل نسبي بالعبادات وروح الهوية، ويبقى مغيباً في كثير من المفاصل عن الأخلاق والمعاملات وإعادة الإنتاج الحضاري، في منظورها الجمعي الشامل رغم تواتر ذلك على المستوى الفردي والعجز عنه على المستوى الجمعي.
فأي سكرة كادت لنا كيدها؟ وأي فكرة عجزنا عن إعادة إنتاجها؟ ولأن الأشياء تعرف بصفاتها فمكائد السكرة تمظهرت في الأبعاد المجتمعية التالية:
على المستوى السياسي:
1- تعويم الساحة السياسية وتدنيس الفعل السياسي خطاباً وممارسة وباستهداف الشقين: الموالاة والمعارضة، فكل مستهدف بالتشويه والتوظيف لكن حسب ما رضي لنفسه من أدوار على ضوئها تتحدد مسافته من هذه الممارسة ومدى خدمته لأغراضها والواقع والتاريخ سيحكمان على كل طرف.
2- تكريس مظاهر الهيمنة السياسية بما يخدم الاستحواذ على مفاصل الحكم ومركزته وحصره في دوائر ضيقة وخنق التشاركية بالتضييق على مختلف الفاعلين خارج دوائر النظام وعصبه.
3- السلطوية على وسائل الإعلام والمجتمع المدني والنخب المجتمعية.
على المستوى الثقافي:
1- التوجيه الممنهج للفعل الثقافي وتحريك بوصلته شرقاً وغرباً بما يخدم مصالح النظام، وتهميش الفعل الثقافي المحلي وتسطيحه وإفراغه من محتواه الجزائري الأصيل.
2- استغلال التنوع الثقافي الجزائري بما يخدم تشتيت الفاعلين وتعميق الانقسامات الداخلية ومنع التوحد والاجتماع حول قيم مشتركة بما يسمح من صناعة وعي جمعي حول المسألة الوطنية ومشاكل الراهن التنموي، مغيباً فرصة التوجه بالفعل الاجتماعي نحو النظام الذي أثبت فشله في تسيير الشأن العام بالتوازي مع تفشي الفساد بشكل غير مسبوق، فيؤجل بذلك التفاف الجهود حول مسألة أساسية: مساءلة النظام حول فشله ورهنه للتنمية المستحقة.
3- معارك التلهية الدونكيشوتية باستغلال البعد الهوياتي للمجتمع الجزائري، إذ كلما ذاق الخناق على النظام إلا وخلق فضاءات لمعارك التلهية بإثارة مشاعر المواطنين حول واحدة من أبعاد الهوية الوطنية وما تعليمة المجاهرة بالسكرة، وقوانين فردانية الأسرة، سوى بعض فصولها.
على المستوى الاجتماعي:
1- التلهية بمظاهر الظلم الاجتماعي من غمط للعدالة الاجتماعية في الاستفادة من الثروات وهيمنة التنظيمات غير الرسمية على مختلف مبادئ المواطنة، فيجد المواطن نفسه ممزقاً بين لقمة العيش غلت على مدخلات جيبه أو مهموماً بإشاعة ندرتها كإشاعة فقد السكر والزيت والحليب والبطاطا والأنسولين وغيرها من موجبات العيش، وبين التزاحم على الحق في الصحة والسكن والعمل وغيرها من الحقوق الأساسية مع أشباح لا يمكن إثباتها كالمعريفة والمحسوبية والجهوية والفئوية، فيغرق في اللهث وراء هذه الأساسيات ويتلهى مدركاً أو غير مدرك عن الفاعل الأساسي وارتداد أفعاله على إدارة الشأن العام أو على عجزه في ذلك.
2- تكريس الجهوية والفئوية والقبلية وكل أشكال التراتبية حتى تلك التي توظف الدين، ومحق فرص النمو الطبيعي للأنساق المجتمعية وتساندها فأصبح مجتمعنا يسير نحو منطق كوننا سكاناً ليس مجتمعاً يشكل نظاماً كلياً تتمايز بناه الفرعية وتتساند لتحافظ على كينونته، فمنظومتنا التربوية لا علاقة لها بمنظومتنا الجامعية هذه الأخيرة لا علاقة لها بمنظومتنا العمالية ولا علاقة لهن جميعاً بمنظومتنا القيمية هذا إن صح إطلاق مفهوم منظومة على تلك الهياكل المفرغة من روح المجتمع.
3- تعميق الهوة الهوياتية بعدم حسم المسألة حول مشروع المجتمع ما أبقى منطق التخبط في دوائر مفرغة في كل المجالات، لأننا لا نملك مرجعية مكرسة نصاً وممارسة نستند إليها في بناء الخيارات التنموية المختلفة.
على المستوى الاقتصادي:
1- غياب مشروع المجتمع عطل إنتاج توجه اقتصادي واضح وفي كل عقد نستورد رؤية ما ونفرضها تعسفاً على مجتمعنا وهي مجتزءة من سياق مجتمعي مغاير تماماً فنحن اشتراكيون تارة ورأسماليون أخرى وثالثة متحررون، نعاني التيه في التوجه الاقتصادي المتساوق مع مجتمعنا ما أعدم البيئة المناسبة لفعل اقتصادي يبعث ميتا مع كل تبني لرؤية جديدة.
2- خنق المبادرة الاقتصادية لهيمنة التنظيم غير الرسمي في الممارسة الاقتصادية، ما عزز مخاوف الفاعلين الاقتصاديين من المغامرة برؤوس أموالهم في بيئة غامضة مجهولة.
3- تكريس منطق الريع لقتل الفعل المنتج الأساس الحقيقي لصنع الثروة، لتسهيل الانتفاع غير الأخلاقي من مقدرات الثروات الوطنية على حساب المجموعة الوطنية ومقدرات الدولة والوطن.
هذه المظاهر من مكائد السكرة تعززها تعليمة الخمور الأخيرة ليجد المخنوقون متنفساً لهم حتى يسكروا عن واقعهم ويذهلوا عن مرارة احتناك مصيرهم، فبعد الخمر يأتي الأمر المطاع، لكن يظل السؤال الكبير مطروحاً رفضنا سكرة المدام، فهل نملك الأدوات لنعي سكرة النظام وننتج الفكرة المحررة للإنسان فكراً وممارسة، أو لنطرح الأشكال من زاوية أخرى كيف نسهم في حتمية التغيير فالنظام يستمد فرص استمراره – رغم فشله وعجزه – من تجليات السكرة على الوعي الجمعي العام، ما هي المقاربات الأمثل لإعادة إنتاج الفكرة؟ هذا هو الهاجس وكل ما نكتبه يندرج في منهجية إحداث الخلخلات الفكرية العامة وتحفيز عمليات إنتاج الوعي، من هنا يبدأ المخاض العسير لميلاد الفكرة المخلصة من أغلال السكرة، فأين المتزاحمون على فضل السبق؟