تحليل: انتخابات نيجيريا والمفاجأة التاريخية

 

كان المراقبون العارفون بهشاشة الوضع في نيجيريا بسبب ما تحمله في طياته من عوامل التناقض مثل وجود أكثر من (300) مجموعة عرقية، من الناحيتين الاجتماعية والأمنية، يضعون أسوأ الاحتمالات عشية الانتخابات الرئاسية التي جرت فيها يومي 28 – 29 آذار – مارس الماضي بما في ذلك وقوع الانفجار الشامل الذي قد يعقبه تفكك أجزاء هذه الدولة التي تصنف على أنها عملاقة القارة الإفريقية، لكن سوء الأوضاع ألصق بها نعت “عملاق بسيقان من طين”.

  انطلق واضعو هذه الفرضية القاتمة من التاريخ الدامي لهذه الدولة التي تبلغ مساحتها الكلية (923768) كم²، بينما يصل تعداد سكانها (180) مليون نسمة تقريباً، وتجعلها وتيرة الازدياد السكاني تحتل المرتبة الثالثة من حيث الحجم الديمغرافي بعد كل من الصين والهند خلال العقدين القادمين.

سياق معقد:

وقعت الانتخابات الرئاسية النيجيرية في سياق حاد بلغت فيه حالة الاستقطاب الذروة ما جعل البلد يقف على حافة الهاوية حين تواجه الشمال المسلم والجنوب غير المسلم، وتم استنفار النخوة الدينية المركبة من الثلاثية: الإسلام، المسيحية والوثنية، ومن ثم استيقظت الثارات التاريخية المتراكمة منذ مذبحة القيادات الإسلامية عام (1966م) وعلى رأسهم رئيس وزراء نيجيريا في حينه السيد/ أحمد بلو تفاوا ورفاقه وما تلا ذلك من أحداث جسام بلغت ذروتها في حرب بيافارا عام 1967م.

لكن مصدر القلق الرئيسي تمثل هذه المرة في بعبع “جماعة بوكو حرام” التي تكاد توازي، من حيث الدور والتأثير في الأحداث، تنظيم الدولة الإسلامية بالمشرق، وتضاعفت خطورة الوضع عندما هددت الجماعة بعرقلة الانتخابات ما كان يعني بصورة واضحة جعلها دموية.

وحين أخذت صناديق الاقتراع تقول كلمة الفصل مرجحة كفة السيد/ محمد بخاري المرشح المسلم عن حزب المؤتمر التقدمي على حساب السيد/ جوناثون جود لوك الرئيس المنتهية ولايته، وضع كثير من المهتمين بالشأن النيجيري أيديهم على قلوبهم وجلين مما سيصدر عن الرئيس المنصرف وعن أنصاره الموتورين من ردود أفعال تخشى عواقبها على استقرار البلاد الهش، ثم كانت المفاجأة حين سلم جود لوك جوناثان بالهزيمة ومضى في هذا النهج الأريحي وقام بالاتصال بغريمه السياسي ليهنئه بالفوز بكل بساطة؛ (وهي ظاهرة نادرة في القارة حيث لم يتكرر حتى الآن إلا في السنغال)، ثم توج ذلك بتوجيه دعوة إلى أنصاره بالتزام الهدوء وقبول النتائج الرسمية التي أعلنت عنها لجنة الانتخابات المستقلة مساء الثلاثاء 31 مارس 2015م بفوز منافسه بفارق يتجاوز مليوني صوت نتيجة تقدمه في (21) ولاية من بين الولايات الـ (36) التي تتكون منها دولة الاتحاد بما في ذلك معقل “بوكو حرام” وبنسبة (53,9%).

أسباب وتداعيات

أما إذا حاولنا فهم العوامل الجوهرية التي عدلت الميزان حتى وقعت المعجزة فتحولت نيجيريا من قنبلة شديدة الانشطار إلى نموج يبشر المحللون السياسيون بأنها قد تشكل، إلى جانب النموذج السنغالي المكرس، مدرسة في مجال الحكامة في مختلف الأقطار الإفريقية، فنستطيع الاهتداء إلى جملة من المؤشرات نجملها في الآتي:

– حالة النضج السياسي التي تتسع دائرتها يوماً بعد يوم لدى الناخب السياسي الإفريقي الذي أصبح يصر على ممارسة دور “المواطن الأصيل”، كما تجلى ذلك في عدد من البلدان مؤخراً وخاصة في كل من بركينا فاسو والكونغو، وهو الوضع الذي يعزوه البعض إلى انعكاسات تيار الربيع العربي (رغم ما اعتراه من تشوهات) والذي اجتاز الصحراء باتجاه الجنوب.

– نجاح الرئيس المنتخب في حشد المعارضة السياسية النيجيرية حوله بخلاف ما كان يحدث منذ التحول الديمقراطي سنة 1998م والذي جاء بعد انتهاء حقبة الدكتاتورية العسكرية الدموية التي عصفت بالبلاد منذ استقلالها (1960) وذلك بانتخاب الرئيس أوليسغون أوبا سانجو على رأس حزب (PDP) (حزب الشعب الديمقراطي).

– موجة التفكك التي اجتاحت الحزب الحاكم بقيادة الرئيس المنصرف، كما اتضح من خلال انسحاب شخصيات من الوزن الثقيل من صفوف الحزب عشية الرئاسيات، مع اتهام الرئيس جونا ثان بالعجز عن مواجهة التحدي الأمني المتمثل بجماعة “بوكو حرام” التي أصبحت تهدد مستقبل الدولة، وكان من أبرز هذه الشخصيات الرئيس النيجيري الأسبق السيد/ أوبا سانجو الذي يتمتع بقدر من المصداقية داخلياً وخارجياً وقبوله التحالف مع السيد/ محمد بخاري.

من هذه العوامل الجوهرية الدور الإيجابي الذي نهضت به “لجنة الانتخابات المستقلة” والتي أجمع المراقبون على أنها أدارت المعركة الانتخابية بقدر كبير من المهنية والتزام الحيدة تجاه المرشحين، بالإضافة إلى الآليات الفنية التي تم اعتمادها لأول مرة في نيجيريا عن طريق تطبيق نظام إلكتروني للتعرف على الناخب، ما جعل الانتخابات تخلو من المعكرات التي غالباً ما تكون سبباً للطعن المفضي إلى التجاذب، وربما الاحتراب على غرار ما شهدته البلاد حين تفجرت الأحداث العاصفة التي أعقبت انتخابات 2011م، وحصدت أرواح حوالي ألف نسمة.

دلالات الفوز:

أما دلالة فوز التيار ذي الاتجاه الإسلامي، فيمكننا أن نقرأها من خلال عدد من المعطيات من ذلك أنهم يمثلون اليوم أكبر قوة سياسية على الأرض، ولم يكن ينقصهم لاحتلال موقعهم سوى حالة التشرذم التي كانوا يكابدونها ولما استطاعوا هذه المرة أن يلملموا أطرافهم ثقلت موازينهم.

والعامل الآخر يبدو أنهم اكتشفوا خسارة الرهانات الأخرى التي كانوا يعولون عليها طيلة العقود المنصرمة، حيث كان الصوت المسلم ضائعاً، وأمكن تجميعه اليوم بفعل الحيوية التي بثها الربيع العربي الذي أفسح المجال للتيار الإسلامي لعرض إمكاناته رغم ما يشوب الموقف حالياً من معكرات عارضة ستنقشع قريباً.

وفي درجة أقل، يأتي الشعور الذي يتعاظم في نيجيريا وفي البلدان المحيطة في أن النجاح في القضاء على ظاهرة “بوكو حرام” المستفحلة لا يمكن أن يتم إلا بأيدي قيادة إسلامية، وهو انطباع يبدو أنه موجود حتى في صفوف الجيش كما تعكس ذلك التحليلات التي تقول بأن من أسباب الفشل حتى الآن رفض المكون الإسلامي في الجيش النيجيري الانصياع لأوامر صادرة من قيادة غير مسلمة لمقارعة مسلمين رغم نقاط الاختلاف.

 وختاماً، يبدو أن النيجيريين قد نجحوا في تقديم الفصل الأخير من عرسهم الديمقراطي في الانتخابات التي جرت لاختيار حكام الولايات، وعزز فيها الرئيس الجديد تفوقه، واستطاعوا بهذا تكريس الدرس الرائع الذي قدموه لباقي القارة في الرئاسيات الأخيرة، وعليه يمكن القول اليوم بأن سفينة نيجيريا الديمقراطية قد انطلقت بقوة وفي الاتجاه الصحيح!  

 

 

Exit mobile version