«النهضة».. هل نجحت في ترويض مارد الثورة المضادة بتونس؟

خاضت حركة النهضة التونسية مغامرة محفوفة بالأخطار عندما قررت بإرادتها في صيف 2013م أن تتخلى عن الحكم الذي وصلت إليه بصناديق الانتخاب، وأن تلجأ للجلوس على طاولة «الحوار الوطني» جنباً إلى جنب مع من كانت تصفهم بأنهم قادة الثورة المضادة، و«أزلام» النظام السابق، وبأنهم يسعون إلى تكرار تجربة الجنرال «عبدالفتاح السيسي» في مصر. ثم تطورت هذه المغامرة وباتت أكثر إثارة للجدل والقلق عندما قررت الحركة أن تفتح الطريق أمام سليل النظام السابق، الباجي قائد السبسي، ليكون أول رئيس منتخب في تاريخ الجمهورية التونسية الثانية، وعندما قررت ألا تكون في صف معارضي حزب نداء تونس وإنما مكوناً أساسياً في حكومته.

ترويض المارد

ومع كل مغامرة أو مناورة خاضتها حركة النهضة في السنتين الماضيتين، كانت أصوات كثيرة من داخل النهضة ومن خارجها، ومن داخل تونس ومن خارجها، تراهن على أن الإعلان الرسمي عن نجاح الثورة المضادة وانتهاء عهد الثورة وعن عودة النظام الاستبدادي بات مسألة أيام إن لم يكن ساعات.

فراهن المتخوفون من تكرار التجربة المصرية في تونس على أن يكون رئيس الوزراء التونسي السابق مهدي جمعة، والذي تولى الحكم بعد استقالة حكومة النهضة، هو «سيسي تونس»، ولكنه لم يكن، ثم توقعوا أنه لن يجري الانتخابات، فأجراها، ثم أعلنوا أن وصول السبسي لقصر الرئاسة سيوصل النهضة إلى أقبية السجون، فوصل السبسي إلى قصر الرئاسة وبقيت النهضة أهم المؤثرين في المشهد السياسي التونسي وأهم المشاركين في الحكم.

وبعيداً عن التقييمات القاسية التي تصف المسار الذي اختارته حركة النهضة بعد مشاهدتها لما آلت إليه تجربة نظرائها في مصر، بأنه مسار تنازلات وهوان وخذلان، يمكن أن نقول: إن حركة النهضة اختارت أن تروض مارد الثورة المضادة عوضاً عن التصادم معه، ودون الخوض في تنبؤات بعض المتابعين التي رأت أن خيار حركة النهضة سينتهي إلى عودة النظام الاستبدادي في المستقبل، يمكن لأي متابع للمشهد التونسي أن يقرر أن مكتسبات الثورة من حرية وديمقراطية مازالت قائمة حتى الآن، وأن حركة النهضة نجحت في ترويض مارد الثورة المضادة إلى درجة تجعل الباجي قائد السبسي يصرح بأنه لا مجال لتشكيل حكومة دون مشاركة حركة النهضة، وتجعل قيادات مرموقة في حزب نداء تونس تقول: إن النهضة أكثر تأثيراً على الحكومة من حزب نداء تونس.

التعاون من أجل البقاء

وقد اختار حزب نداء تونس أن يكلف الحبيب الصيد، غير المنتمي للحزب والمقرب من الباجي قائد السبسي، بتشكيل حكومة توافقية، وبعد مشاورات مع كل الأحزاب أعلن الحبيب الصيد عن تشكيلة الحكومة الأولى التي لم ترَ النور بعد أن أعلنت حركة النهضة وحزب آفاق تونس والجبهة الشعبية عن معارضتهم لها، ليعيد المشاورات ويعلن عن حكومة جديدة حصلت فيها النهضة على حقيبة وزارية و3 حقائب كتاب دولة، وشهدت إبعاد الوزراء الذين أثاروا قلق حركة النهضة؛ بسبب ما عرف عنهم من انتمائهم لليسار المتطرف ومن عدائهم للإسلاميين.

وبغض النظر عن مستوى تمثيل كل حزب من الأحزاب التونسية في الحكومة التي نالت ثقة البرلمان، تمتلك هذه الحكومة دوافع كبيرة للصمود وللعمل بسلاسة لتنفيذ مشاريعها خلال السنوات الخمس القادمة، وذلك على شرط أن ينجح حزبا النهضة ونداء تونس اللذان يمتلكان أكثر من ثلثي مقاعد البرلمان، في الحفاظ على مستوى التعاون الحالي فيما بينهما، وعلى شرط أن يحافظ كل منهما على وحدة كتلته البرلمانية، ويمنع حدوث أي انشقاقات كبيرة داخل حزبه؛ وذلك خشية أن تؤدي هذه الانشقاقات إلى تشكل كتل برلمانية معارضة قوية قد تنجح في عرقلة عمل السلطتين التشريعية والتنفيذية، وقد تنجح في الإطاحة بالحكومة في حال جمعها لباقي الأحزاب الممثلة في البرلمان.

خطر الانشقاقات

وبينما عرفت حركة النهضة استقالات مهمة في الأشهر الأخيرة، كانت أشهرها استقالة أمينها العام السابق حمادي الجبالي، ثم استقالة عبدالحميد الجلاصي من مكتبها التنفيذي؛ يعيش حزب نداء تونس حالة من التجاذبات الداخلية الحادة؛ بسبب تركيبته الهشة وغير المنسجمة والتي تجمع بين شخصيات سياسية تنتمي لتيارات سياسية وثقافية واجتماعية مختلفة؛ مما يهدد بحدوث انقسامات داخل الحزب وربما داخل كتلته البرلمانية، ويجعل الحزب في حاجة إلى تحالفات قوية داخل البرلمان حتى يكون قادراً على تعويض أي انشقاقات تتعرض لها كتلته البرلمانية.

تحديات

ورغم ما تعطيه شراكة النهضة والنداء في الحكومة وفي البرلمان من تطمينات حول استقرار العملية السياسية في تونس، وحتى في حال نجاح الحزبين في الحفاظ على كتلهما البرلمانية ومنعهما لحدوث أي انشقاقات داخل هياكلهما الحزبية، ستبقى التحديات الأصعب أمام من يقودون العملية السياسية في تونس مرتبطة بملفين عاجلين؛ هما الملف الأمني والجماعات المسلحة التي تنفذ بعض العمليات الإرهابية في مناطق مختلفة من الجمهورية، وكذلك الملف الاقتصادي الذي تطال ويلاته كل مناطق الجمهورية بنسب متفاوتة، والذي يشهد تدهوراً متزايداً يوماً بعد يوم.

وكما أن أي حل للملف الأمني لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون فوري النتائج؛ مما يعني أن تونس يجب أن تتحمل طيلة الفترة القادمة إمكانية حدوث أعمال إرهابية في أي وقت وفي أي مكان، فإن الحل الوحيد أمام الحكومة للتعامل مع الملف الاقتصادي سيتمثل في فرض إصلاحات اقتصادية ستكون قاسية على المواطن المتعب بطبعه من أزمات السنوات الماضية؛ مما يعني أن الحكومة ستحتاج جهود كل الأحزاب لتهدئة الشارع وإقناع المواطنين بتحمل قسوة تلك الإصلاحات.

ووجود هذه الملفات الحرجة كتحديات عاجلة أمام الساسة التونسيين ساهم بشكل إيجابي – ويمكن أن يساهم بشكل أكبر في المستقبل – في تكوين وحماية الشراكة السياسية الحديثة بين حركة النهضة ونداء تونس، حيث لجأ نداء تونس إلى إشراك النهضة في الحكم؛ خشية من تحولها كحزب قوي الشعبية إلى صفوف المعارضة في مثل هذه الأوضاع الاقتصادية والأمنية، في حين تجنبت حركة النهضة الوقوف في صفوف المعارضة خوفاً من أن تصبح معارضتها مبرراً لما قد تؤول له تجربة نداء تونس من فشل جزئي أو كلي خلال معالجتها لهذه الملفات.

ومن جهة أخرى، وفي حال نجاح النهضة والنداء في المحافظة على شراكتهما الحالية، سيسهم هذا الاستقرار السياسي، الذي يعتبر انفراداً تونسياً من بين كل دول «الربيع العربي»، في تشجيع الدعم الخارجي لهذه التجربة سواء من الدول الإقليمية أو العالمية على مختلف المستويات الأمنية والاقتصادية.

Exit mobile version