«الصحوات»..أقـــوى أسلـحة الثـــورة المضادة

أقدم صحوة (أو خيانة بالمعنى الحقيقي) عرفت في التاريخ الحديث هي صحوة المعلم يعقوب المصري، وهي مليشيات مسلحة شكَّلها «نابليون بونابرت» تحت قيادة هذا الخائن لخدمة قوات الاحتلال الفرنسي في مصر، وقد قاد «يعقوب» تلك المليشيات (الصحوات حالياً) ضد ثورات المصريين الذين نبذوه واحتقروه، فطلب أن يرافق الحملة عند خروجها وهي تجر أذيال الهزيمة من مصر، وفي الطريق إلى فرنسا مات وألقيت جثته لتلوث البحر الأبيض المتوسط.

«الصحوات» هي الاسم الحديث لجيوش ومليشيات العملاء والخونة الذين يجري تجنيدهم من قبل المحتل ليكونوا يداً باطشة، وعيناً عارفة وكاشفة تمكِّن المحتل من الاطلاع على أسرار الوطن والوطنيين، وخصوصاً أولئك الذين يتصدون للمحتل ويقاومونه.

والخيانة التي ابتكر لها الأمريكيون اسم «الصحوات» قديمة قدم الصراعات التي نشأت منذ ظهر البشر على الأرض، فالفرنسيون الذين ابتكروا الخيانة المسلحة في مصر أثناء حملتهم الاستعمارية على مصر في نهاية القرن الثامن عشر، استعملوها في الجزائر، وشكلوا ما أطلق عليه «الحركيون»، وهم الجزائريون الخونة الذين ساندوا الجيش الفرنسي المعتدي ضد المقاومة الجزائرية، وفي يوم استقلال الجزائر 18/3/1962م وصف الجنرال ديجول «الحركيون» بكلمة شهيرة قال فيها: «هؤلاء لعبة التاريخ، مجرد لعبة».

وقد وصل عدد هؤلاء الخونة إلى ما يقرب من 200 ألف جزائري، وكان عدد سكان الجزائر وقتها لا يتجاوز 10 ملايين نسمة، بينهم الكثير من الرتب العسكرية العالية، وقد ألحقوا الكثير من الأذى بالمقاومة الجزائرية، وذهبوا مع المحتلين عندما غادروا الجزائر مدحورين، وما زالوا يوصمون بأنهم خونة، ويتعامل الفرنسيون مع أحفادهم داخل فرنسا بكثير من الإهانة والاحتقار، كما أن الحكومات الجزائرية المتلاحقة رفضت عودة هؤلاء إلى الجزائر، رغم مرور عشرات السنين على هروبهم إلى فرنسا.

كذلك شكل الأمريكيون «صحوات» في فيتنام بعد هجوم «الفيتكونج» في مايو 1968م أسموها بـ«القرى الإستراتيجية»، وبلغ عددها 16 ألف قرية، وامتدت على طول الحدود الفاصلة بين فيتنام الجنوبية والشمالية، وأفشلها المقاتلون الفيتناميون في عامين.

وفي فلسطين كوَّن الاحتلال ما سُمي «روابط القرى» على مرحلتين، الأولى بدأت في الخليل عام 1978م، والثانية تم تأسيسها من جديد عام 1981م من قبل «شارون» عندما كان وزيراً للدفاع.

وترأس تلك الروابط «مصطفى دودين»، لكنها سرعان ما وصلت إلى طريق مسدود، بعد أن تحرك الفلسطينيون ضدها، وتصدت لها فصائل المقاومة الفلسطينية وأفشلتها.

«الصحوات» في العراق

لم يستطع الجيش الأمريكي أن يهزم المقاومة العراقية السُّنية الشرسة التي قادها تحالف إسلامي سُني قوي بقيادة «مجلس شورى المجاهدين»، حيث تم طرد جيش الاحتلال من كل مناطق العراق السُّنية، وقد ظهرت الحاجة الماسة لتشكيل «مليشيات الخونة» المسماة بـ«الصحوات»، بعد أن فشل الأمريكيون في تحقيق أي نجاحات حتى بعد تدمير مدينة كاملة على رؤوس أهلها هي مدينة الفلوجة في نوفمبر 2004م، وقد كانت صدمة حقيقية لإدارة الاحتلال الأمريكي، وعندها اعترف الجنرال «مارك كيميت» بأن المسلحين تمكنوا من قطع طرق الإمدادات الرئيسة الخاصة بالقوات الأمريكية.

بعد معركة الفلوجة تضاعفت ثقة المجاهدين وزادت هجماتهم الشرسة؛ مما ألجأ «بوش» لمعهد «راند» التابع لـ«البنتاجون» والممول من سلاح الجو الأمريكي الذي اقترح عليه خمسة خيارات أمام القوات الأمريكية، أهمها أن الجيش الأمريكي سيفشل لا محالة؛ لأنه مصمَّم لقتال جيوش كبرى، ولن يتمكن من تحقيق النصر في حرب العصابات التي تخوضها ضده فصائل مسلحة كثيرة في العراق، وأن السبيل الوحيد هو اتباع أسلوب قتالي يشبه ذلك الذي يستخدمه المسلحون، على أن يكون المقاتلون من نفس البيئة، ويتغلغلون في وسط المقاتلين.

التشويه الإعلامي للمجاهدين

واقترح معهد «راند» القيام بحملة تشويه واسعة وكبيرة لفصائل المجاهدين المسلحة، وأن يتم استخدام كل الوسائل والطرق المشروعة وغير المشروعة، بما في ذلك عمليات اغتيال غامضة تستهدف الوجهاء وشيوخ القبائل والعشائر والعلماء، ثم تُلقى التهم على المجاهدين.

وبالفعل، نفذت الخطة، وجرى تكوين فرق اغتيالات وقتل وخطف وتشويه للجثث مدربة، بدأت عملها الإجرامي مع تسلم السفير الأمريكي المتخصص في هذه الأعمال «نيجروبونتي» مهام منصبه في العراق، وبدأت الإستراتيجية الأمريكية تعمل على تشويه صورة المقاومة في العراق، ووصل ذلك ذروته عام 2005م، ولهذا ركزت الخطة الأمريكية على استنساخ مشروع «فينيكس» الذي طبقته في فيتنام لتنقله إلى الميدان العراقي.

وعاثت مجموعات الخيانة والارتزاق المسماة بـ«الصحوات العراقية» المدعومة والممولة أمريكياً فساداً في المثلث السُّني الذي أرعب أمريكا رعباً حقيقياً، وكاد يحقق نصراً كاملاً عليها لولا هؤلاء الخونة، فقتلت وسحلت واختطفت، وكانوا عيون الاحتلال، وأحياناً يده الباطشة ضد المجاهدين، قتلوا وسحلوا من قدروا عليهم، وقدَّموا للأمريكيين معلومات تفصيلية بأسماء وعناوين وتحركات رجال الجهاد والمقاومة العراقيين وأقاربهم وعائلاتهم، فهدم الأمريكيون وحكومة «المالكي» و«الصحوات» البيوت على رؤوس ساكنيها، وقتلوا الرجال أمام أطفالهم واستباحوا الأموال والأعراض.

 وقدمت «الصحوات» معلومات استخباراتية دقيقة وتفصيلية عن كل بيت وقرية ومدينة، وتم اعتمادها من قبل غرفة عمليات خاصة تابعة للأجهزة الأمنية، واستهدفوا المقاومة في العراق بجميع رموزها وقياداتها ومن يدعمها، حتى الذي يقدم الإسناد المعنوي لها، واستهدفوا جميع المقاومين للاحتلال الأمريكي والمعارضين للحكومة والعملية السياسية، المدعومة بقوة من إيران دون استثناء.

وتحقق ما أرادته أمريكا وما خططت له، وعادت قوات الاحتلال الأمريكي لبسط سيطرتها على العديد من المناطق الساخنة، وفي مقدمتها محافظة الأنبار، بعد أن طاردت «صحوات» العمالة والخيانة رجال المقاومة جميعهم ودون استثناء، وهي تجاهر بعمالتها وخيانتها، وتستقل «سيارات الهمر» وتضع الشارات الأمريكية على صدور أعضائها.

«الصحوات» في ليبيا

من أخطر ما فعلته أمريكا استنساخ تجربة «الصحوات» في العراق، بتأسيس «صحوات» ليبية تقاتل مع اللواء المتقاعد «خليفة حفتر» بتمويل مشبوه، ولكن هذه «الصحوات» تأثيرها محدود؛ لأنها تكونت على عجل بعد الإخفاقات المتكررة لـ«حفتر» في تحقيق أي إنجازات تذكر على الأرض.

فقد لجأ «حفتر»، عميل المخابرات المركزية الأمريكية والقوى الإقليمية المساندة، إلى تكتيك جديد في الحرب على بنغازي وطرابلس، في محاولة لدخولها، بعد أن عجز عن ذلك منذ انطلاق مؤامرته المسماة زوراً «عملية الكرامة» في 16 مايو الماضي، وهذا التكتيك يعمل على خلق جيوب داخلية في أحياء بنغازي، خصوصاً تلك التي تسكن فيها طبقات شعبية فقيرة وجاهلة يمكن خداعها.

صحوات «الأسد»!

هل نجح أعداؤنا في إدخال الصحوات إلى سورية؟ يتساءل الكاتب السوري المعروف مجاهد ديرانية ويجيب: للأسف نعم، لقد بدؤوا بتجربة محدودة في الشرق، في بعض مناطق دير الزور، ونفذوها حتى الآن بنجاح يدعونا إلى القلق، بل إلى الاستنفار ودق أجراس الخطر، ولكن لماذا في تلك المنطقة تحديداً؟ أكان اختيارها عشوائياً أم مقصوداً؟ لا أظن إلاّ أنه كان مقصوداً تماماً؛ لأن مؤامرة «الصحوات» لا يمكن تنفيذها إلا وسط حاضنة مناسبة، وأفضل الحواضن هي البيئة العشائرية كما ظهر في تجربة العراق.. أليست «صحوات» العراق قد وُلدت قبل سبع سنوات على الطرف الآخر من الحدود؟

إن هذه المؤامرة الخبيثة تحتاج – حسب الكاتب – إلى ثلاثة عناصر؛ أولها: البيئة الحاضنة، والثاني: هو علماء السوء الذين يبررون قتال المسلمين ويُفتون في الدماء، وتحتاج أخيراً إلى الكثير من المال.. فأما الحاضنة، فقد وجدوها في البيئة العشائرية التي يسهل تجييشها وتحريكها بسبب ترابطها الوثيق، وأما المال، فإنه في أيدي أعدائنا كثير، وهم مستعدون لإنفاق مئات الملايين في سبيل خططهم الخبيثة ولا يبالون، بقي العنصر الثالث: علماء السوء؛ وهذا هو أخطر جزء في الموضوع.

وأضاف ديرانية: هؤلاء القوم يتحركون اليوم تحت مظلة «جبهة الأصالة والتنمية»، ولكنهم قد يغيّرون الاسم أو يبتدعون غيره غداً إذا كُشف أمرهم، فما أسهلَ تغيير الأسماء! حتى لو غيَّروا أسماءهم فإن عليكم أن تعرفوهم بأفعالهم، وأن تَحْذروهم وتحذّروا منهم، ستجدون عندهم دائماً أموالاً كثيرة، والناس كلهم يحتاجون إلى المال، المقاتلون من أجل السلاح، والمدنيون من أجل الغذاء، سوف يمنحون المال مقابل مواقف عدائية حاسمة من تلك الكتيبة أو ذلك الفصيل، والمبررات موجودة دائماً: إنهم متعصبون أو متشددون أو تكفيريون.. أو ما شئتم من الصفات.

لقد أسست «صحوات سورية» لنفسها قاعدة في المنطقة الشرقية، وبدأت بالانتشار في بقية المناطق، في الوسط والشمال، ويقال: إنها وصلت إلى ريف دمشق الغربي فاشترت كتيبة صغيرة في الزبداني، ولكن قاعدتها ما تزال ضعيفة، وانتشارها محدود.

ويعلق مجاهد ديرانية قائلاً: إن مؤامرة «الصحوات» واحدة من أسوأ المؤامرات التي يمكن أن تتعرض لها سورية؛ لأنها ستضرب قوى الثورة بعضَها بعضاً؛ فتنكسر شوكتها جميعاً (لا قدّر الله)، ومن ثَمّ يصبح المسرح جاهزاً لقوى الاستعمار الغربية لتفرض على سورية الحل الذي تريد، والذي سيكون من أهم أجزائه المحافظة على الهيكل الأساسي لنظام الاحتلال الذي سلّطوه علينا منذ نصف قرن، وإجهاض الثورة قبل أن تحقق أهدافها.. فهل ستنجح هذه المؤامرة؟

«المواطنون الشرفاء» في مصر

في مصر هناك علاقة تاريخية بين الأمن و«البلطجية» الذين يظهرون في صورة «المواطنون الشرفاء»، تأتي في إطار ما قاله رئيس حزب الوسط أبو العلا ماضي – المحبوس حالياً على ذمة قضايا التحريض على قتل المتظاهرين – إلى وجود نحو 300 ألف بلطجي يرعاهم جهاز الأمن الوطني، وأن جهاز المخابرات المصرية أحال ملفات هؤلاء إلى جهاز الأمن الوطني بعد ثورة 25 يناير، ويبدو أن أعدادهم قد تضاعفت بعد الانقلاب.

وقد رصدت وسائل الإعلام المحلية والدولية وجود من تصفهم الشرطة والجيش بـ«المواطنون الشرفاء» وهم يحملون السلاح ويعتدون على المتظاهرين المناهضين للانقلاب في الفترة الأخيرة أمام أعين قوات الأمن.

ويرجع أول ظهور لمصطلح «المواطنون الشرفاء» إلى بدايات المرحلة الانتقالية الأولى التي قادها المشير «محمد حسين طنطاوي»، القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع السابق، عندما بدأت الاحتجاجات ضد المجلس العسكري وتظاهر الثوار في محيط وزارة الدفاع للمطالبة برحيل المجلس العسكري ونقل الرئاسة إلى مجلس رئاسي.

ووقعت اشتباكات بين أهالي العباسية المؤيدة للقوات المسلحة والمتظاهرين، خرج بعدها المجلس العسكري ببيان رسمي موجهاً رسائل مباشرة لدفع الناس للتصدي للمتظاهرين المحتجين على سياساته، وتحفيز الناس على مواجهتهم، إذ وجه المجلس تحية إلى من أسماهم «الشرفاء من الشعب المصري العظيم والذين أقاموا درعاً بشرية بين المتظاهرين والقوات المسلحة؛ ما يؤكد عبقرية هذا الشعب وحسه الوطني الذي أبهر العالم بثورته البيضاء»!

وبعد..

فإن العمالة هي العمالة، والخيانة هي الخيانة، العمالة خسة، والخيانة نذالة، وخيانة الأوطان ستبقى ما بقي الإنسان هي الخيانة العظمى، الخيانة التي لا تُغتفر، ولو حاول المستعمر الآثم وأذنابه أن يجعلوها وجهة نظر أو يسمونها صحوة أو تعاوناً أو تنسيقاً أو سياسة!

Exit mobile version