تقرير: مؤشر المقاصد بماليزيا.. نقلة حضارية

عبدالحافظ الصاوي

أعلنت ماليزيا عن إطلاق مؤشر شرعي لقياس مدى التزام قطاعات الدولة الحيوية بمقاصد الشريعة الإسلامية (حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال)، ويقيس المؤشر ثمانية قطاعات رئيسة، هي: العدالة، والتربية، والاقتصاد، والاجتماع، والبنى التحتية، والصحة البيئة، والثقافة، والسياسة.

وتعد تجربة مؤشر المقاصد إحدى آليات فهم أن الشريعة حقوق وواجبات، قبل أن تكون حدود وتعزيرات، وخروج عن جدل مثار منذ سنوات في الدول العربية، حول تهيئة المجتمع لتطبيق الشريعة، فاعتماد المؤشر على المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، فيه انعكاس لواجب المجتمع، كأفراد وحكومات.

ولقد عكس التناول الماليزي تجربة حضارية، من خلال إسناد الحكومة الفكرة للجامعات والمراكز البحثية لإنضاجها وإخراجها بصورة علمية، بدلاً من التناول السلبي الذي يتم به التعامل في الدول الإسلامية، مع القضايا الإسلامية بصورة جدلية، تلوكها ألسنة غير المتخصصين في وسائل الإعلام وغيرها.

إن العمل من خلال الجامعة في تجربة مؤشر المقاصد، يعكس علاقة سليمة يجب أن تكون محل استفادة من الدول الإسلامية الأخرى، لكي تنضج الأفكار في بيئتها الصحية السليمة، وتظل الأفكار حتى بعد خروجها للتطبيق، رهن التطوير والتصحيح.

التجربة التاريخية

ترصد التجربة العملية التي شهدتها الحضارة الإسلامية، تطبيقًا حقيقًا لمقاصد الشريعة الإسلامية، لامسه من عاش فترات الخلافة الراشدة، وما تلاها من فترات حكم للدولة الإسلامية، وبخاصة تلك التي سادها العدل وحرص الحكام على تطبيق شريعة الإسلام بعيدًا عن الأهواء الشخصية وطمع الملك وتوريثه.

ولعل فترة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز واحدة من تلك الفترات المنيرة، التي تجلت فيها الحياة الاقتصادية الرغدة، كانعكاس لدولة العدل، والتي جعلت من المقاصد العامة للشريعة الإسلامية مجالًا لعملها، فتوافرت فرص العمل، وتوافر المال، واستوفت الرعية حقوقها في مختلف المجالات.

وإن كان بعض الفقهاء قد حصر الحاجات الضرورية للإنسان في خمس احتياجات، سُميت بالضرورات الخمس (المأكل، والمشرب، والملبس، والمسكن، والدابة) فمنهم من وسع هذا المجال وجعله تسعًا، أضاف إلى الخمس السابقة، أدوات الإنتاج اللازمة، والزواج والنزهة، والتعليم، وقضاء الديون.

ويذهب علماء الاقتصاد الإسلامي إلى أن حد الكفاية (الغنى) في الإسلام يتسم بالمرونة والدينامكية، بما يجعله يتفاوت بمستواه وعناصره حسب الزمان والمكان، والظروف الشخصية والمهنية، مستدلين على ذلك بقول الشاطبي رحمه الله عن حد الكفاية بأنه “يختلف باختلاف الساعات والأحوال”.

تفرد مؤشر المقاصد

تعد الخطوة التي اتخذتها ماليزيا تجاه العمل بمؤشر المقاصد، خطوة نوعية، إذ كانت كافة المؤشرات المستخدمة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، أو حتى مؤشر التنمية البشرية، تعد مؤشرات مجردة، وإن كانت خلفيتها المنهجية ترتبط بالحضارة والثقافة الغربية.

وكون مؤشر المقاصد الذي أعلنت عنه ماليزيا يستحضر المقاصد العامة للشريعة كمنهجية فكرية وثقافية لتفعيل آلياته، فهذه هي سمة تفرده، فالحديث من قبل عن المقاصد كان يتسم بالعمومية، وكان التحدي هو، كيف ننزل هذا الكلام النظري الجميل إلى واقع معاش، في صورة كمية، يمكن من خلال معرفة مدى تقدم أو تخلف الدولة أو المجتمع؟ ومن باب أولى تعميم هذا المؤشر على بلدان العالم الإسلامي.

إن المجالات التي يغطيها مؤشر المقاصد ترجمة عملية للخروج من الإطار النظري للمقاصد الخمسة للشريعة الإسلامية إلى حقائق على أرض الواقع، فالمجالات كما ذكرنا سابقًا هي: “العدالة، والتربية، والاقتصاد، والاجتماع، والبنى التحتية، والصحة والبيئة، والثقافة، والسياسة”.

في عام 1990م حينما أصدر البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة مؤشر التنمية البشرية لعالم الاقتصاد الشهير “محبوب الحق”، اعتبر ذلك نقلة نوعية في العلوم الاجتماعية، وبخاصة تلك المعنية بقياس التنمية، لكونه يعكس صورة تبلور وجود مقياس حقيقي شامل، لا يعتني بجهة ويهمل أخرى.

ومن خلال الاطلاع على المجالات التي يغطيها مؤشر المقاصد نجد أنها شاملة، ومن شأنها أن تعطينا مؤشرًا قويًا، فتصدير هذه المجالات بالعدالة، يعكس روح الإسلام الذي يأبى الظلم، كما أن بقية المجالات هي مكونات الحياة وضروراتها في عصرنا الحديث.

وتعد فكرة مؤشر المقاصد امتدادًا لمشروع الإسلام الحضاري الذي صدرته وأنتجته التجربة الماليزية في ثمانينيات القرن العشرين، إبان فترة حكم “د. مهاتير محمد”، وبقدر ما تسهم به تجربة مؤشر المقاصد من إبراز لنجاح إنزال الشريعة الإسلامية إلى واقع معاش، بقدر ما تصب في تصحيح الصورة المغلوطة لدى البعض من قصر الإسلام في الجانب التعبدي، أو الترسيخ لمفهوم العلمانية بفصل الدين عن الدولة.

فمن خلال مؤشر المقاصد وما يسفر عنه من نتائج يتبين لمن يعيشون في الدول الإسلامية، أن لهم حقوقاً كفلتها الشريعة، سواء كان ذلك للمسلمين، أو لغيرهم ممن يعيشون ويستظلون بظل الدولة الإسلامية.

ولن تكون السياسة هي اللعبة القذرة، كما يعرفها الإنجليز، ولكنها ستكون محكومة بإطار أخلاقي، يسمح بحرية حقيقية يحميها العدل، ويساهم فيها التعليم والتربية بقدر كبير من الإيجابية، ولا يغيب الاقتصاد والاجتماع عن استحقاقات الشعوب، كما يكون لاعتبارات البيئة والصحة ما يستحق من اهتمام لإكساب الشعوب حياة كريمة، فضلاً عن البنية الأساسية بمكونيها المعرفية والصلبة لتسهيل حياة الأفراد.

مكونات المؤشر

د. يونس صوالحي، أستاذ الاقتصاد بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، صرح لـ”المجتمع” بأن مؤشر المقاصد قد حدد المؤشر ستة محاور يمكن من خلالها تقويم مدى الالتزام بمقاصد الشريعة، وهي:

المبادرات: ويتم من خلاله تقويم الأطروحات التي تهدف إلى تعزيز تطبيق الشريعة الإسلامية.

التطبيقات: ويتم من خلاله تقويم النماذج الفعلية، والإنجازات الحقيقية لتطبيق الشريعة الإسلامية في مختلف القطاعات الحيوية للدولة.

تطوير مقياس الالتزام: ويتم من خلاله تقويم الجهود الرسمية، والشعبية لتطوير مقياس أو نظام لقياس مدى تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد.

الصعوبات والتحديات: ويتم من خلاله الوقوف على الصعوبات، والتحديات التي تواجه تطبيق الشريعة الإسلامية في مختلف القطاعات.

المقترحات: ويعنى هذا المحور برصد المقترحات لتطوير آليات تطبيق الشريعة في مختلف القطاعات بأحسن الطرق والأساليب.

المصادر والمراجع: ويهتم هذا المحور بذكر المراجع المعيارية التي يمكن الرجوع إليها لمعرفة حالة الالتزام العامة بمقاصد الشريعة.

ويتميز المؤشر من خلال اعتماد مكونات قياسه على الاحتكاك بالمجتمع، وعدم الاكتفاء فقط بالإحصاءات والبيانات المكتبية، أو توجهات الباحثين الفكرية، فهو يفتح الباب للمجتمع المدني لكي يقيس الجهود الشعبية في مجال تطبيق الشريعة الإسلامية، وفي نفس الوقت يفعل آليات المقترحات أيًا كان مصدرها، وفي مختلف القطاعات لكي يتم تطوير آليات تطبيق الشريعة الإسلامية.

تميز ليس بجديد

على مدار العقدين الماضيين، استطاعت ماليزيا أن تضيف إلى التجربة الإسلامية في العصر الحديث، فبعد نجاحها في الانتقال من دولة نامية إلى دولة صاعدة، اتجهت لمجال الاقتصاد الإسلامي دراسة وتطبيقًا، ثم مجال البنوك والمصارف الإسلامية، ثم مجال التأمين الإسلامي، وأسواق المال الإسلامية.

ولم تعد مجالات المالية الإسلامية قاصرة على التطبيق في ماليزيا بل خرجت إلى العالمية، وكان لماليزيا دور ملموس في ذلك، وهي تقود الآن نقل خبراتها بمجال المالية الإسلامية بفروعه المختلفة إلى سائر الدول الآسيوية، ولعل اليابان هي آخر المحطات التي تستعد لتطبيق التمويل الإسلامي داخل اقتصادها.

وسوف يكون مؤشر المقاصد بلا شك مساهمة وتميزاً جديداً يضاف لجهود ماليزيا في المجال الإسلامي، ويضع باقي الدول الإسلامية في تحدٍّ حقيقي لقياس مدى قربهم أو بعدهم عن تطبيق الإسلام، فليست القضية كلمات واحتفالات وشعارات، بقدر ما هي سلوك ونتائج على الأرض، لترجمة مقاصد الإسلام ومعانيه الحقيقية، التي عاشتها أمته في عصورها الزاهية.

Exit mobile version