تقرير: قرب اجتياح الموصل.. يحرك المصالح التركية بالعراق!

 

محمد الطائي

مرت العلاقات العراقية التركية بمراحل، مُتأثرة بمتغيرات عصفت بالساحة العراقية خاصة وبالمنطقة عامة، حيث شهدت فترة الحكم الملكي في العراق انطلاقاً للعلاقات الودية المشهودة بين الجارين، والتي تطورت سريعاً وتوجت بزيارة الملك فيصل الأول ملك العراق إلى تركيا عام 1931م، ثم توجت بميثاق أو حلف بغداد الذي وُقع بين نوري السعيد، وعدنان مندريس في 12 ديسمبر 1955م.

 وما لبثت تلك العلاقات أن تكدرت عام 1958م بعد أن تغير الحكم في العراق من الملكي إلى الجمهوري، وكانت تركيا من الراغبين ببقاء الحكم الملكي في بغداد، ومن هنا عزمت على التدخل العسكري لمنع التغيير، لولا بعض القوى الكبرى، وأبرزها الاتحاد السوفييتي، التي منعت مثل هذا التصعيد.

بينما شهدت فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ارتفاعاً ملحوظاً في منسوب العلاقات بين البلدين لتشمل أصعدة متنوعة، لعل في مقدمتها الصعيد النفطي وتصديره عبر الأراضي التركية، وتلتها حزم من التبادل التجاري والصناعي فيما بعد.

ثم كان للالتزام التركي بتنفيذ العقوبات الاقتصادية على العراق، وإيقاف ضخ النفط العراقي عبر أراضيها إبّان الغزو العراقي للكويت عام 1990م استجابة للقرارات الدولية، وكان هذا سبباً في تدهور سريع للعلاقات بين البلدين، وما تبعه من سماح الجانب التركي للتحالف الدولي في استخدام قواعده الجوية كمنطلق لهجمات التحالف الدولي، وما رافق ذلك من تخفيض لحصة العراق المائية من نهري دجلة والفرات! بإقامة المشاريع والسدود على منابع النهرين (مُستغلاً انشغال العراق في حروبه وحصاره)، فكان جفاف مساحات واسعة من الأراضي الزراعية في العراق، وموت محاصيلها الزراعية وثرواتها الحيوانية، وانهار اقتصاد عراقي هو بالأصل منهار!

وتداركت تركيا جفاء العلاقات بين البلدين وما سببه ذلك الجفاء من أذى مرصود لاقتصادها، فرفضت ما كانت قد وافقت عليه بالأمس، ولم تسمح باستخدام أراضيها كقواعد أو منطلقات لعمليات احتلال العراق رغم الضغوطات الأمريكية الكبيرة.

وجاء الاحتلال عام 2003م، والغريب أن الموقف التركي من ذلك الحدث الجلل كان ضعيفاً، فهو وفي أفضل حالاته كان متفرجاً على ما يحصل في عراق مُستباح يتناطح فيه الاحتلالان الأمريكي والإيراني وينهشان من جسده!، باستثناء ما كان من بعض المواقف الدبلوماسية أو المصالح التجارية لشركات تركية ربحية، بينما توقع العراقيون عامة وأهل السُّنة من العرب والتركمان أن يكون هناك دور أكبر لتركيا وهم يتأملون فيها الجار الحليف والسند القوي.

لم تكن تركيا داعمة للعملية السياسية العراقية العرجاء بعد الاحتلال، وفي ذات الوقت لم تكن الحكومات الشيعية المتتابعة في حكم العراق من حزب الدعوة الإسلامية مرحبة بأي دور تركي بل العكس، من هنا لم تمثل تركيا للقيادات السُّنية على مر سنين الاحتلال وما تلاها أكثر من حافظة لماء وجههم، فعندما تحتمي وتتمترس الأحزاب الشيعية أيام الشد الطائفي والتنافس الانتخابي بإيران، فيحجّون أفواجاً أفواجاً إلى طهران في مواسم الحج وغيره ليعودوا مزودين ومتخمين بكل إمكانات الثبات في النزال الحاسم ومستلزمات النصر، بينما القادة السُّنة يكتفون بزيارات “العمرة” إلى أنقرة من باب الوجاهة ومحاولة إعطاء رسالة إيجابية لجمهورهم بوجود البلد الداعم لمشروعهم (إن وجد المشروع أصلاً).

واليوم، وبعد هذه الجفوة، وقد تراجعت أولوية الملف السياسي العراقي في الإستراتيجية التركية لقرابة العقد ويزيد، حتى في أصعب الظروف التي مر بها العراق، سواء كان في حربه الأهلية قبل تسع سنوات، أو اليوم وقد احتلت “داعش” أكثر من ثلث أراضيه، أعود وأقول: نرى اليوم تركيا حاضرة في المشهد العراقي السياسي والعسكري، وبتزامن مع انطلاق معارك طرد “داعش” من محافظة صلاح الدين والتي تعتبر مفتاحاً لتحرير الموصل وبوابتها، نراها وقد أرسلت طائرتي شحن من نوع “سي 130” مُتخمة بالعدة والعتاد، لتهبط بعدها بساعات في أحد مطارات بغداد العسكرية طائرة وزير الدفاع التركي ليلتقي القيادات العراقية السياسية والعسكرية العليا، وهو يتحدث عن التزام الجانب التركي بتجهيز العراق بكل ما يحتاجه من السلاح والعتاد، ويُذكّر (من نسي) أن تركيا جزءاً من التحالف الدولي ضد “داعش”، وليتحدث عن التنسيق بين الطرفين في استيعاب النازحين نحو الحدود التركية إذا ما بدأت معارك تحرير الموصل.

وقد تناولت الصحف التركية بشكل موسع سبب هذا الاهتمام المُفاجئ بسير العمليات العسكرية في العراق، حيث ذكرت صحيفة “الصباح” التركية أن أنقرة تتابع عن كثب عمليات العراق ضد “داعش” في الموصل، وستساهم فيها بشكل محدود، بينما ستدعم الجهود الإنسانية والطبية، وربما بعض المعلومات الاستخباراتية.

هذا بينما تصول إيران وتجول في ميدان القتال وساحاته، فقاسم سليماني يدير المعارك من قرية في مدينة سامراء ويرسم معالم العراق الجديد بعد التغيير الديمجرافي المُفزع والإجرامي في المحافظات السُّنية العربية، والقصف المدفعي الكثيف يتم بإشراف الحرس الثوري الإيراني، والمستشارون من ذات الفيلق يرسمون ملامح المعركة وخفاياها الطائفية قبل العسكرية.

إن دوراً تركياً مرجواً اليوم تنتظره عموم ساحات المشهد العربي، فالشارع العراقي السُّني ينظر لتواجد الأتراك في ساحات النزال خطوة إيجابية (وإن كانت على حياء)، منتظراً من العثمانيين الجدد جهداً رصيناً وتواصلاً مقصوداً ونفساً طويلاً؛ من أجل إعادة التوازن في العراق، ومنع الاستئصال والتهميش والتهجير الذي نال من أبنائه العرب السُّنة، والذي بدأ يفعل فعلته في التغيير الديمجرافي البغيض في العراق المُمزق.

 

 

 

Exit mobile version