الواشنطن بوست: إعادة النظر في مقاومة التطرف

تحتضن إدارة أوباما قمة مكافحة التطرف العنيف، وهي محاولة أخرى تسعى لفهم العنف، الأيديولوجية الداعمة له، والمسببات الأخرى التي تقف وراءه. ويفصح تصريح “ماج جين ميشال ناجاتا”، قائد قوات العمليات الأمريكية الخاصة بالشرق الأوسط، عن المخاطر والعقبات الجسيمة

 

 عمر عاشور

تحتضن إدارة أوباما قمة مكافحة التطرف العنيف، وهي محاولة أخرى تسعى لفهم العنف، الأيديولوجية الداعمة له، والمسببات الأخرى التي تقف وراءه. ويفصح تصريح “ماج جين ميشال ناجاتا”، قائد قوات العمليات الأمريكية الخاصة بالشرق الأوسط، عن المخاطر والعقبات الجسيمة التي تعترضهم “نحن غير قادرين على فهم داعش، ولن نتمكن من هزيمتها حتى يتسنى لنا ذلك”.

وفيما يخص مسألة مقاومة التطرف في القمة، بحوزتي بعض التدوينات المرتكزة على خبرة بحث العشر سنوات الماضية، وتتضمن أخباراً جيدة وسيئة لبعض المؤتمرين.

كنت قد حضرت في آذار 2010م محاضرة بطرابلس عاصمة ليبيا، رفقة زملاء من أكاديميين وصحفيين ومسؤولين غربيين، والتي شهدت إطلاق سراح زعيم الجماعة الإسلامية المقاتلة بليبيا، في إطار مصالحة يقودها سيف الإسلام القذافي، ولي عهد معمر القذافي، تمثل المصالحة إحدى عناصرها الأساسية. غير أن الجماعة المقاتلة لم تتخلى عن نشاطها المسلح ضد نظام القذافي، بل وأصدرت دراسة بـ416 صفحة تعتمد على حجج عقدية، أيديولوجية، ذرائعية واجتماعية نفسية تشرع لأشكال مختلفة من الكفاح المسلح غير التابع للدولة، بما فيها من خطط إرهابية. غير أنه تم الاحتفاء بالوثيقة حينها، كدراسة مضادة لخطاب وأفكار الجماعات العنيفة المتطرفة من قبيل تنظيم القاعدة.

إلا أنه في أغسطس 2011م، وفي منتصف ثورة مسلحة، شنت إحدى قيادات الجماعة المسلحة هجوماً على مجمع باب العزيزية، أي مكمن مقر معمر القذافي، إذ لم تكن البيئة السياسية حينها تحتمل مجالاً للمصالحة ومقاومة التطرف، ولم تكن الآليات المؤسساتية للنزاعات غير المسلحة قد أُقحمَت بعد في ليبيا، في حين لم يُسمَع حتى بعمليات إصلاح القطاع الأمني ولا مراجعة معايير التعاطي مع الأزمات السياسية ولا مفهوم عدالة انتقالية موثوق فيها. وعموماً، لم يكن هناك مجال للتحول من الكفاح المسلح للنشاط السلمي على الرغم من المحاولات العديدة للاستثمار في هذا المجال.

ولم يكن ذلك شأن ليبيا فحسب، حيث كان المسؤولون، الجنود والعاملون بالفرقة 134 المسؤولة عن كافة عمليات الاعتقال بالعراق، بما فيها سجن بوكا، المكان الذي يأوي أبا بكر البغدادي، وهم يعون ذلك جيداً، فقد قامت الولايات المتحدة سنة 2007م ببسط برنامج إعادة تأهيل بالسجون العراقية، يطرح مسألة مقاومة التطرف. كان لهذا البرنامج نتائج إيجابية أولية أفضت إلى إطلاق سراح قرابة الـ10000 سجين مع حلول سنة 2008م، في حين كان البلد يخوض مرحلة تصعيد، غير أن هذه الآثار قد اضمحلت مطلع سنة 2010م.

هذا لا يعني أن مآل كل عملية مقاومة للتطرف هو الفشل، فهذا المفهوم على غاية من الأهمية، حيث أن له أثراً هاماً على التوافق الوطني، والتماسك الاجتماعي، وعمل مؤسسات الدولة، وأمن وسلامة المواطنين وحقوق الإنسان. ولنا أن نتساءل هنا عن كنه هذا المفهوم، وعن مقومات فشله ونجاحه.

فهي تحيل مقاومة التطرف على عملية تغيير نسبية، تقوم بمقتضاها جماعة راديكالية بمراجعة أيديولوجيتها ونبذ العنف كوسيلة لتحقيق غاياتها السياسية مع المضي في طريق قبول تحول اجتماعي وسياسي واجتماعي تدريجي في سياق تعددي. غير أنه لم يتم في يوم من الأيام الالتقاء حول تعريف موحد دقيق لهذه العملية، ولا يزال المجتمع الأمني بصدد مناقشته.

ويرى بعض الخبراء أن على هذا المفهوم أن يتمحور حول تغيير المواقف إزاء كل من العنف السياسي ووتيرة التحول الاجتماعي السياسي عوض التركيز على مسألة الليبرالية الدستورية، مما يحيل على نبذ المجموعات المقاومة للتطرف للعنف والقبول بإصلاحات مؤسساتية بطيئة وتدريجية مع محافظتها على التمييز الجنسي، موقفها من المثلية الجنسية، حذرها من الدخلاء وغيرها من الآراء المتعصبة.

في حين يعتقد آخرون أنه على الجماعات والأفراد المقاومة للتطرف أن تتبنى الليبرالية الدستورية، مما يضبط مستوى عال لهذه العملية، يزيد من نسبة فشل عديد الأحزاب السياسية، الحركات الاجتماعية وخاصة الجماعات المسلحة في الشرق الأوسط.

ينطوي كلا الخيارين على استتباعات عدة، ففي حين من شأن الخيار الأول أن يضر بالتماسك الاجتماعي وخاصة في المجتمعات متعددة الثقافات، يمكن للثاني أن يحكم بالفشل على مجرد الانتقال من الكفاح المسلح إلى النشاط السلمي وما يتبع ذلك من إقصاء لهياكل سياسية معينة، بحجة أنها لم تصبح هياكل ديمقراطية ليبرالية، ففي دراسات سابقة حول السياق الشرق أوسطي، وجدت أنه من الأنجع التمييز بين نبذ التطرف والاعتدال الذي يعتبر تغييراً نسبياً يعنى بالمواقف تجاه الليبرالية الديمقراطية. غير أنه، وكما يشير إلى ذلك جيليان شوادلر في مقال حديث، لم يُسَجَّل أي إجماع على تعريف للاعتدال.

أما في ظل الأنظمة الاستبدادية، فيقع الخلط بين نبذ التطرف والتعاون، حيث لا تحظى بهذا التصنيف، ولا تُعتَبَر معتدلة سوى تلك الجماعات التي تسير وفق الخط الذي يرسمه النظام مبدية الولاء للحاكم، سواء كان ملكاً أو رئيساً، فحتى ولو حولت مجموعة نشاطها من مسلح إلى سلمي مع المحافظة على موقعها في المعارضة، تظل “راديكالية” أو “متطرفة”.

وليس التحول من النشاط المسلح إلى السلمي ظاهرة فريدة من نوعها في الشرق الأوسط، إذ تظهر دراسة إحصائية أجرتها مؤسسة “راند” أنه من بين268 جماعة مصنفة كإرهابية بين سنتي 1968 و2006م، هناك 20% فقط تمت هزيمتها عسكرياً، مقابل 43% بادرت بالانضمام للساحة السياسية إما كأحزاب أو حركات اجتماعية سياسية، وكانت كل من قوات الشرطة، المخابرات والردود الجماهيرية مسؤولة عن تفكيك 40% من التنظيمات، معظمها صغيرة، في حين تحولت الكبرى وخاصة منها تلك التي تضم ما يزيد عن الألف عضو إلى النشاط السياسي غير المسلح.

كيف لتحول مماثل أن يحدث إذن؟

يمكن لنبذ التطرف أن يتم على مستويات ثلاث: أيديولوجية وسلوكية وتنظيمية، وعادة ما تكون مزيج القيادة الكاريزمية داخل منظمة أو دولة أو نظام استبدادي، التفاعل مع الآخر المخالف في التفكير إضافة إلى مختلف طبقات المنظمة، و الإغراءات انتقائية من الدولة وغيرها من الجهات الفاعلة في خضم بيئة تصعيدية للمجتمع حيث هناك أسباب شائعة لنبذ التطرف، يجمعها نمط تفاعل. إذ لطالما أثر قمع وتفاعل الدولة مع المخالفين على آراء وتصرفات قيادات التنظيمات المتطرفة المسلحة مما دفعهم للشروع في ثلاث عمليات ذاتية، تتمثل في إنشاء حسابات إستراتيجية تقوم على تحليل التكاليف والمنافع، واعتماد سياسة تعليمية تعتمد على التفاعل مع المغايرين في التفكير، والتعديل من رؤى المجموعة كنتيجة للأزمات الحادة، والإحباط والتغييرات الجذرية في البيئة المحيطة. على إثر ذلك يشرع زعيم التنظيم المسلح في عملية نبذ التطرف التي غالباً ما تدعمها حوافز انتقائية تقدمها الدولة، فضلاً عن التفاعلات الداخلية. وغالباً ما تتفاعل الجماعات التي بادرت بالانتقال إلى النشاط السلمي مع تلك المسلحة، مؤثرة عليها في نطاق بيئة ضغط مراقبة كالسجن، أو المنفى، أو المعاقل الوعرة.

هذا، وقد تم توظيف عمليات وبرامج نبذ التطرف كجزء لا يتجزأ من مكافحة الإرهاب والإستراتيجيات الأمنية في عدد من الدول أغلبها عربية، حيث قامت كل من المغرب، والمملكة العربية السعودية، والعراق، والأردن واليمن على سبيل المثال، بإنشاء برامج سجنية مهيكلة تحت سيطرة الدولة، يتم فيها التفاعل بين المشتبه فيهم وقيادات دينية وروحانية، وأعضاء من المجتمع المدني وأكاديميين مستقلين. كما اعتُمد أسلوب الإغراء الانتقائي تحت مراقبة الدولة لدعم نبذ التطرف عن أفراد يتم اختيارهم سلفاً، إذ شهدت مصر والجزائر وليبيا ما قبل 2011م عمليات نبذ تطرف جماعية دمجت بين الإدانة الأيديولوجية للعنف السياسي من جهة والتسريح، ونزع السلاح والإدماج من جهة أخرى. على الرغم من ذلك، يبقى الاختلاف حائماً حول معدلات نجاح هذه البرامج، وتبقى هذه العمليات مطروحة للنقاش لما تواجهه من تحديات هيكلية وبيئات قاسية، حيث لا وجود لإجماع حول كيفية تقييم نجاحها على الرغم من سهولة معاينة التغييرات الجماعية، والمنظمات والفصائل، ومقارنة بالتحولات الفردية. بالإضافة إلى ذلك، فإنه من الصعب التسليم باستمرارية هذه البرامج والعمليات دون مبادرة إصلاح سياسي وأمني شامل ومسار عدالة انتقالية.

وبصرف النظر عن سبل تفسير عملية نبذ التطرف، يجمع الأكاديميون على ارتباطها الوثيق بالسياق. أي أن مآل كل سياق سياسي يسوده القمع السلطوي، والانقلابات العسكرية، والحروب الأهلية وغيرها من أشكال العنف السياسي وعدم الاستقرار الاجتماعي هو التطرف العنيف، مما يقلص في نسب نجاح واستمرارية محاولات نبذ هذه النتيجة.

من جهتها، أعطت الثورات ذات الغالبية العربية الأكاديميين والممارسين عدة دروس مهمة،  أبرزت أنه من شأن سبل التغيير من البيئة السياسية أن يؤثر على كل من التطرف ونبذه.

حيث شكك أودي في المقاومة السلمية وقدرتها في إسقاط نظامي تونس ومصر الاستبداديين بالنظريات العنيفة للمتطرفين، والجازمة بكون الخيار المسلح هو الأكثر فاعلية في تحقيق التحول السياسي والاجتماعي، علاوة على شرعيته الأيديولوجية، غير أن التحولات التي طرأت على ثورتي سوريا وليبيا بداية من 2011م، والتطورات الإقليمية بالعراق أثناء وإثر أبريل 2013 ومصر أثناء وإثر يوليو 2013م، قادت إلى استنتاجات عدة: أن إستراتيجيات القوة الناعمة والمقاومة المدنية محدودة، مما يستوجب اللجوء إلى القوة. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الاستنتاجات كان قد أدلى بها العديد من الشباب الناشطين واستفادت منها جماعات كداعش وجبهة النصرة وتنظيمات أخرى من هذا القبيل، حيث يسهل انتشار التطرف والتجنيد وفق شماعات أيديولوجية داعمة لهذا التوجه في أوساط مماثلة.

وفي سياق التحولات الجزئية للمؤسسات الديمقراطية في كل من تونس ومصر وليبيا واليوم بين 2011 و2013م، يمكن التوصل إلى بعض الملاحظات في ما يخص السياسات الحرجة.

أولاً، تمكنت كل من الجماعات التي نبذت الكفاح المسلح من التحول إلى النشاط الأعزل. ولم تكتف منظمات مثل الجماعة الإسلامية المصرية والجماعة الإسلامية المقاتلة بليبيا، بالإضافة إلى فصائل وأفراد من المنظمات الجهادية المصرية بالتحول إلى أحزاب سياسية، بل شاركت كذلك في الانتخابات وصياغة الدستور والتوافقات السياسية السائدة. هذا وقد قامت الجماعة الإسلامية بمصر بتنظيم انتخابات داخلية سنة 2011م، وطلبت من المنتمين لها بملء استمارات حزبية، كما قامت بتنظيم مسيرات تندد بالعنف الطائفي، وأصدرت بيانات تعايش سلمي مع كنيسة الأقباط بأسيوط. لكن ذلك لم يغير في موقفها من الليبرالية الدستورية في شيء، إذ لا تزال الجماعة محافظة على رفضها لحق بعض الأقليات والنساء في خوض سباق الرئاسة، إضافة إلى حقيقة مساهمة الأيديولوجيات المتشددة مثل السلفية والوهابية في التشكيل الجزئي لنظرة المنظمة العالمية.

أما الملاحظة الثانية، فتهتم بالإصلاحات المتعلقة بالقطاع الأمني. إذ بدا لي واضحاً من الأبحاث السابقة أنه لا يمكن للانتقال من الكفاح المسلح إلى النشاط السلمي دون القيام بعملية إصلاح شاملة لهذا القطاع، يتبعها التغيير من المعايير الإجرائية، والتعديل في مناهج التعليم والتدريب، وتصحيح مفهوم القيادة ومعايير الترقية، فضلاً عن فرض المراقبة والمساءلة من قبل المؤسسات القضائية والمنتخبة، حيث تعتبر الانتهاكات التي يقوم بها قطاع الأمن وانعدام المساءلة في مواجهتها المسبب الرئيسي لإثارة ودعم التطرف المسلح. ولذلك أن يعود بنا إلى أيام سيد قطب الذي شهد تغييراً إيديولوجياً عميقاً إثر معاينته، سنة 1957،للمجازر التي فاضت بها السجون أيام عبدالناصر، فقد ولدت الجهادية والتكفيرية في السجون السياسية المصرية في فترة الستينيات.. أين تراوح التعذيب بين الممارسة اليومية المنتظمة وتلك الانتقائية أحياناً أخرى، مما لا يختلف كثيراً عن وضعية مصر اليوم. وقد ولدت الأيديولوجيات المتشددة كالوهابية والسلفية، وتطورت في رحم الأنظمة الاستبدادية، فلم تنشئ أي منها في وسط موحد ولا ديمقراطية ناضجة.

وتعني الملاحظة الثالثة بإعادة تشكيل العلاقات المدنية العسكرية. فقد خلقت سيادة المُسَلَّح على المُنْتَخَب سياقاً سياسياً علا فيها الرصاص على بطاقات الاقتراع، وأمست القوانين وسيلة للوصول إلى السلطة والبقاء فيها، سياق شرَّع للعنف السياسي بكافة أوجهه مثبتاً فعاليته باستمرار.

التفكيك، التجريد من السلاح وإعادة الإدماج هي محور الملاحظة الرابعة، فقد أدى تسييس مثل هذه العملية وفشلها في ليبيا واليمن غداة ثورتيهما إلى صعود العديد من الجهات المسلحة غير الحكومية. ظاهرة سهلت تزويد المتطرفين المسلحين بالزاد والعتاد. وترتبط هذه العملية بإصلاحات القطاع الأمني، إذ غالباً ما ترفض هذه الجماعات في بيئة ما بعد الصراعات، حلها وتسريحها دون ثقة متبادلة أو ضمانات ملموسة من المؤسسات الرسمية والجهات الحكومية المسلحة خاصة إذا ما كانت هذه الأخيرة فوق الرقابة والمحاسبة والقانون. وتعد هذه العوامل أحد مسببات الفشل المتصاعد في أماكن مثل: درنة شرقي ليبيا، وسيناء شمالي مصر، والأجزاء الوسطى والشمالية من العراق، وتلك الجنوبية والجنوبية الشرقية من اليمن، حيث لا تحظى الجهات المسلحة التابعة للسلطة بالثقة بتاتاً لما لها من تاريخ حافل بالانتهاكات والفظاعات.

وأخيراً، فإن الدعم الشعبي للمصالحة الوطنية، والتسوية، وإعادة الإدماج والتخفيف من درجة التصعيد يعتبر أمراً مهماً للتقليص من التطرف العنيف ودعم نبذ هذه الظاهرة. ويعتبر هذا النوع من الدعم في جزء كبير منه ناتج من ثقافة سياسية يمكن خلقها وتطويرها خلال المرحلة الابتدائية والثانوية والعالية للتعليم، كما أن للإعلام الحر والنزيه دوراً كبيراً في تعزيز هذه المفاهيم بدلاً عن ذلك المروج للهستيريا الاجتماعية والاستقطاب الطائفي.

المصدر: الواشنطن بوست

 

 

Exit mobile version