الإعلام الحر.. حماية للمجتمع من التسلط

بينما كنتُ أغوص في الأرشيف الصحفي لمجلة “المجتمع”، وقعت عيناي على قصاصة خبرية تحمل عنوان “تعطيل الزميلة “الوطن” لمدة شهر”،

 

 

 

الصحافة سلطة شعبية تنهض برسالتها بحرية من أجل تأمين وممارسة حرية الرأي

الصحافة وسيلة للرقابة الشعبية على مؤسسات المجتمع من خلال النقد ونشر الأخبار والمعلومات في إطار من الدستور والقانون

1.2 مليار نسمة فقط يعيشون في بلدان تتمتع بصحافة كاملة الحرية

2.4 مليار نسمة يتمتعون بصحافة منقوصة الحرية

نحو 80% من سكان العالم لا يتمتعون بصحافة كاملة الحرية

 

محمود المنير

بينما كنتُ أغوص في الأرشيف الصحفي لمجلة “المجتمع”، وقعت عيناي على قصاصة خبرية تحمل عنوان “تعطيل الزميلة “الوطن” لمدة شهر”، و”تعطيل “الطليعة” لمدة ثلاثة أشهر”، كان ذلك في (العدد 316) من أعداد المجلة لعام 1976م، وبعيداً عن ملابسات التوقيف الصادر من وزارة الإعلام وقتها، أو حتى التوقيف الأخير لجريدة “الوطن”، نقول: إن تقييد حرية الصحافة ومصادرة الرأي، ليس حكاية جديدة في عالمنا العربي، بل هي قصة الأمس المتجددة، ورواية اليوم الممتدة لعقود من تاريخ العلاقة بين الصحافة والسلطة، ولأن الصحافة تشكل السلطة الرابعة فمصادرة رأيها يعد تغولاً على السلطات وتنازعاً فيما بينها، فالصحافة ما هي إلا سلطة شعبية تنهض برسالتها بحرية واستقلال من أجل تأمين وممارسة حرية الرأي والفكر والتعبير والنشر، والحق في الاتصال والحصول على المعلومات الصحيحة ونشرها وتداولها كحقوق أصيلة غير قابلة للمساس بها.

وتسهم الصحافة في نشر الفكر والثقافة والعلوم والارتقاء بها، والصحافة تعد وسيلة مؤثرة للرقابة الشعبية على مؤسسات المجتمع من خلال التعبير عن الرأي والنقد ونشر الأخبار والمعلومات في إطار من الدستور والقانون مع احترام المقومات الأساسية للمجتمع وحقوق وحريات الآخرين.

الصحافة صوت الأمة

لقد أجاد المفكر الروسي “تولستوي” في وصف دور الصحافة بقوله: “الصحافة بوق السلام، وصوت الأمة، وسيف الحق القاطع، وملاذ المظلوم ولجام الظالم، تهز عروش القياصرة، وتدك معالم المستبدين”.

وقيل لـ”بيتهوفن” وقد ثقل سمعه: “أي خسارة عظيمة أن تفقد سمعك وأنت الفنان العظيم!»، فقال: «ستكون خسارتي أعظم لو فقدت لساني؛ لأنه عنوان حريتي”، وعندما سئل “مونتسكيو” عن أخطر الناس؛ فقال: «الممنوع من الكلام؛ لأنه سيتحدث بعضلاته»..

أما “توماس جفرسون”، الواضع الرئيس لإعلان الاستقلال الأمريكي، فقد كتب عام 1787م فيقول: “لو تُرك الأمر لي لأقرر ما إذا كان ينبغي أن تكون لدينا حكومة بدون صحف، أو أن تكون لدينا صحف بدون حكومة، لما تردّدت لحظة في اختيار الأمر الثاني”.

وهذا لا يعني أن الصحف كانت متساهلة معه عندما أصبح رئيساً، فقد نال نصيبه من التحقيقات الصحفية الناقدة، لكن “جفرسون” ظل ثابتاً في تأييده حتى لأدق النقد الذي تجريه وسائل الإعلام؛ لأنه كان يدرك أنه في غياب مثل تلك المحاسبة، وفي غياب التدفق غير المُقيّد للأفكار، يتعطل النمو المبدع للدولة ولا يكون أهلها أحراراً.

شرط مسبق للديمقراطية

تجدر الإشارة أيضاً إلى أهمية حرية الصحافة باعتبارها شرطاً مسبقاً لديمقراطية حقيقية وسليمة، يتمتع المواطنون في كنفها بحرية التعبير عن آرائهم، وأكدت ذلك (المادة 19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنص على أن “لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقّيها ونقلها إلى الآخرين، بأي وسيلة ودونما اعتبار للحدود”.

وبذلك نجد أن ممارسة الحرية في مضمار تدفق المعلومات ينطوي على مسؤوليات وطنية وأخلاقية، فحرية وصول مواطن أو فئة اجتماعية إلى امتلاك أسباب الاتصالات متلقين ومساهمين على حد سواء، لا يمكن أن تشبه بحرية مستثمر معين في جلب الأرباح من توظيف وسائل الإعلام، حيث نجد أن الأولى تحمي حقاً أساسياً من حقوق الإنسان في حين تتيح الثانية فرصة تحويل حقوق اجتماعية إلى سلعة تجارية.

وعليه تجب معرفة أن حق جميع المواطنين في إعلام موثوق به هو أمر مرهون بشجاعة الصحفيين ونزاهتهم، وبممارسة حرية التحرير بمنأى عن الخوف، وبالتزام لا يحيد من قبل وسائل الإعلام التعددية بمبادئ حرية الصحافة واستقلالها؛ ولذلك يجب على المجتمع الدولي وأصحاب القرار والمواطنين في كل مكان، كي يبذلوا كل ما في وسعهم لضمان تمكين الصحفيين من مواصلة عملهم بدون عائق أو مانع، من أجل أن ينتفع الناس في العالم أجمع بحرية تداول الأفكار.

صحافة منقوصة الحرية

وفي هذا السياق، ورغم الدور البالغ الأهمية الذي تمارسه وسائل الإعلام، تشير منظمة “بيت الحرية” Freedom House أن هناك من بين عدد سكان الكرة الأرضية – البالغ 6 مليارات نسمة – 1.2 مليار نسمة فقط يعيشون في بلدان تتمتع بصحافة كاملة الحرية، و2.4 مليار نسمة يتمتعون بصحافة منقوصة الحرية، في حين يعيش باقي سكان العالم البالغ عددهم 2.4 مليار نسمة في ظل غياب كامل للصحافة الحرة، أي أن هناك نحو 80% من سكان العالم لا يتمتعون بصحافة كاملة الحرية، ومن اللافت للنظر أن معظم هؤلاء يعيشون في العالم النامي، وتعكس هذه الاختلالات في حرية الصحافة اختلالات أوسع بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة.

دور الإعلام الحر

والإعلام الحر لا يمثل متنفساً للتعبير عن الرأي فحسب، بل يحمى المجتمع من التسلط، ويتيح أيضاً مصدراً للمساءلة، ووسيلة للمشاركة المدنية، والتحقق من الفساد الحكومي، ويساعد كذلك على بناء مؤسسات أكثر فعالية وقوة، فمن خلال تشجيع الشفافية والمساءلة في المؤسسات التي تتناولها الصحافة بالنقد، بات ينظر وبشكل متزايد إلى وسائل الإعلام في البلدان الفقيرة على أنها “سلعة تنموية” قادرة على المساهمة في تفعيل مساءلة الحكومة، واستخدام الموارد على نحو أكثر فعالية.

والإعلام الحر لا يحقق مردوداً إيجابياً في إطار مكافحة الفساد فحسب، بل ويحقق أيضاً مردوداً مماثلاً في تعزيز الجهود الرامية لتنمية الدولة ونيل المواطن لحقوقه.

 

 

 

Exit mobile version