باريش: حرية الغرب لا تمتّ للحضارة الإنسانية بأي صلة

اتخذ الهجوم على صحيفة «شارلي إبدو» الفرنسية ذريعة لهجمة شرسة ضد الإسلام والمسلمين

اتخذ الهجوم على صحيفة «شارلي إبدو» الفرنسية ذريعة لهجمة شرسة ضد الإسلام والمسلمين؛ بزعم حرية التعبير عن الرأي، وفي هذا الحوار مع د. ميمون باريش، أستاذ التعليم العالي بجامعة القاضي عياض بالمملكة المغربية، رئيس فريق البحث في أحكام وقضايا المغاربة المقيمين بالخارج، مستشار الجمعية المغربية للثقافة بألمانيا، سنتعرف على أسباب إعادة نشر الرسومات المسيئة للرسول الكريم “صلى الله عليه وسلم” في صحف غربية، وكيف نتعامل من الناحية الشرعية مع مثل هذه الإساءات، في حدود تفهمنا، نحن المسلمين، لـ«حرية التعبير» في الغرب، وواجبنا إعلامياً للدفاع عن الرسول ودفع الشبهات.. وفيما يلي نص الحوار:

 

* كيف تقرؤون نشر رسم جديد مسيء للنبي الكريم بصحيفة مجلة «شارلي إبدو» الفرنسية وعلى صحف أخرى غربية؟

– في البداية نشكر لمجلة «المجتمع» تواصلها الهادف والبنّاء مع القراء، ونتمنى لها التوفيق والسداد لما تبذله من جهد للذود عن الإسلام والمسلمين.

وفيما يتعلق بسؤالكم، فقد علَّمتنا الأيام والأحداث أن الفاشلين في مشاريعهم الحياتية، والباحثين عن النجومية والشهرة، والمتطلعين إلى كسب الثروة، وغير هؤلاء من الوصوليين الذين يحققون مجدهم الدنيوي الزائل على جثث ورقاب الآخرين، لا يتورعون عن الإساءة إلى غيرهم ببعض أقوالهم أو أفعالهم لاستفزاز من يُفترض فيه أن يردّ عليهم بالقول أو الفعل، فإذا ردّ عليهم ضمنوا لأنفسهم الاستمرار، وكسْب التعاطف والتأييد، والظفر بما أرادوا من المصالح الدنيوية الصرفة، وفعلاً هذا ما حدث للصحيفة الفرنسية التي نشرت – في أوقات مختلفة – العشرات من الرسوم المسيئة للنبي “صلى الله عليه وسلم”، ومازالت تنشر الرسوم تلو الرسوم في تحدٍّ سافر لكل القيم الإنسانية العالمية النبيلة، فكلما أوشكت على الإفلاس المادي والمعنوي – وهو ما يحصل لها حين يتركها القُرّاء انتقاماً منها وتأديباً للقائمين على تحريرها لإساءاتهم المتكررة للمقدسات الدينية – لجأ القائمون على تحريرها إلى صناعة فعل مَشين يستدعي ردَّ فعل قوي، أو ردود أفعال تضمن لصحيفتهم الاستمرار في الحياة.

وما يؤكد ذلك إصرار العاملين في الصحيفة على الاحتفاظ بنفس الخط التحريري الاستهزائي والتمادي فيه وتضخيمه بعد العمل الإرهابي الذي طالها أخيراً، من غير احترام لدماء وأرواح الذين سقطوا، حيث طبعت في انتشاء ونشوة ثلاثة ملايين نسخة لعددها الأخير الذي استُهدف فيه المسلمون من جديد استهدافاً مباشراً، ثم انتقل الرقم إلى خمسة ملايين نسخة ثم إلى سبعة ملايين نسخة، وقد يرتفع الرقم إلى أضعاف مضاعفة في ظرف وجيز.

 

التجاهل أبلغ رد

* إذن، كيف نتعامل من الناحية الشرعية مع مثل هذه الإساءات؟

– أعتقد أن المسلمين قد بلغوا اليوم شأناً عظيماً ودرجة عالية من النضج والتعقل ليعاقبوا هؤلاء الوصوليين بنقيض قصدهم، فقديماً صاغ فقهاؤنا قاعدة عظيمة تقول: «من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه»، فإذا كان هؤلاء يستفزون المسلمين استدراجاً لهم للرد أو للانتقام منهم، فإن الواجب على المسلمين ألا يلتفتوا إلى أقوال هؤلاء ولا إلى أفعالهم.

وبهذا المنطق السديد عامل النبي “صلى الله عليه وسلم” المخالفين والأعداء؛ فقد أوذي رسول الله “صلى الله عليه وسلم” بأذى أبشع من الرسوم والأفلام المسيئة، ورغم أنه كان يضيق بذلك صدره ويحزنه كثيراً فإن تلك الأمور لم تحمله قط على الانفعال والانتقام أو مقابلة الإساءة بمثلها، بل كان “صلى الله عليه وسلم” يصبر على ما أصابه ويواصل إرساء قواعد الإسلام العظيم الدينية والسلوكية والأخلاقية دون الالتفات إليهم.

فبهذه الأريحية ينبغي أن نتعامل مع العلمانيين واللادينيين ومن لا خلاق لهم ممن يسيؤون إلى الإسلام والمسلمين، ولنعدّ العدة لمواجهة الحجة بالحجة ومقارعة الدليل بالدليل، ولنعرض عن المجرمين، فإن الإعراض عنهم وعدم الالتفات إلى صنائعهم إفشال لمخططاتهم وإقبار لأهدافهم، وفي هذا الصدد يُروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: «إِنَّ لِله عِبَاداً يُمِيتُونَ الْبَاطِلَ بِهَجْرِهِ، وَيُحْيُونَ الْحَقَّ بِذِكْرِهِ»، أو قال: «أميتوا الباطل بالسكوت عنه وعدم ذكره»، ونصيحتي لشبابنا أن يعلموا أن الله تعالى قد كفى نبينا الكريم المستهزئين، وليشمّروا لإظهار دينهم وتمكينه بالسبل السلمية والطرق النافعة والمسالك الهادفة.

 

الرسول خط أحمر

* ما حدود تفهمنا، نحن المسلمين، لـ«حرية التعبير» في الغرب؟

– باختصار شديد أقول: نتقبل بكثير من التفهم والانفتاح «حرية التعبير» في الغرب، لكن بشرط ألا يكون في هذه الحرية استفزاز لمشاعرنا بالمساس المباشر بثوابتنا ومقدساتنا، فالقرآن الكريم خط أحمر لا ينبغي لأحد التطاول عليه، والنبي “صلى الله عليه وسلم” كذلك لا ينبغي لأحد – كائناً من كان وبأي مبرر كان – أن يقترب منه.

نعم أقول: إننا وإن كنا نتفهم الحرية الغربية، فإننا نلاحظ عليها أنها لا تمت إلى الحضارة الإنسانية بصلة، لا لشيء إلاَّ لأنها مطْلقة وليس لها أي ضوابط تُقيدها؛ فلذلك يستغلها الوصوليون لاستفزاز المسلمين ظلماً وعدواناً، فإن كنت تعجب من هؤلاء المستهزئين، فإن العجب كل العجب ممن يحميهم ويبرر إجرامهم بدعوى الدفاع عن حرية الفكر والتعبير! فحماية هؤلاء تحت مسمى الحرية تبرير للتعصب والعنصرية، وتغذية للانتقام وردود الأفعال مما يسيء إلى القيم العالمية المشتركة.

 

قانون أممي

* كيف نادى الحقوقيون الغربيون باستصدار قوانين تُجرّم معاداة السامية لما فيها من صور العنصرية، ولم يفكروا يوماً في المناداة باستصدار قانون يجرم الإساءة للرموز الدينية؛ يهودية كانت أو نصرانية أو إسلامية؟!

– لقد آن الأوان لتتحرك حكوماتنا وعلماؤنا والحقوقيون فينا مشرقاً ومغرباً للضغط على الأمم المتحدة لإصدار ميثاق أو قانون يجرم الإساءة إلى الأنبياء والسخرية بهم، مع تقييد الحريات إذا تعلق الأمر بالعنصرية الدينية المقيتة، وتحميل المسؤوليات الكاملة للحكومات التي تدافع عن حريات التعبير دون اعتبار للمقدسات، وما قد تؤول إليه أفعال المسيئين من الزج بالناس في المتاهات.

 

دور الإعلام

* وأين إعلامنا من واجب الدفاع عن الرسول ودفع الشبهات؟

– إن إعلامنا على كافة ألوانه وتعدد وسائله ما بين إلكترونية وفضائيات متعددة – إلا ما رحم ربي – لم يرقَ بعد إلى درجة التعريف برسول الله “صلى الله عليه وسلم” والدفاع عنه ودحض الشبهات التي تثار حول سيرته، والإسهام في تحبيبه للناس بذكر صفاته ومناقبه وتجسيد مواقفه.

علينا أن نعترف بأن إعلامنا عجز عن تقديم صورة واضحة عن الرحمة المهداة في الوقت الذي يتفنن فيه الإعلام الغربي في السخرية منه “صلى الله عليه وسلم” والإساءة إليه وتشويه صورته.. أليس بمقدور بعض وسائل الإعلام المرئي والمسموع الجادة والهادفة أن تُعد برامج موجّهة إلى الصغار تُعتمد فيها أرقى أساليب التبليغ لزرع بذور المحبة لرسول الله “صلى الله عليه وسلم” في قلوب النشء، مع العمل على استثمارها أقصى ما يكون الاستثمار لبناء أجيال لا تستفزهم الرسومات المسيئة، وكذلك إعداد برامج تثقيفية للشباب تعرفهم بنبيِّهم وتشرح لهم شمائله؟ أليس بمقدوره أن يعد برامج ناضجة باللغات الأكثر تداولاً في العالم لتعريف غير المسلمين بنبيِّ الإسلام؟ أليس بإمكان صحفنا أن تخصص ركناً يومياً – وليس في المناسبات فقط – لذكر شمائل رسول الله “صلى الله عليه وسلم” والتعريف بأبرز محطات حياته كزوج وأب مسؤول، وبين أصحابه كقائد ومعلم ومرشد وقاضٍ، وفي محيطه كمواطن صالح في نفسه ومصلح لغيره، يكسب قوت يومه، ويرضى بالقليل، ويتعفف ويزهد فيما في أيدي الناس، ويرحم من حوله من المحتاجين، ويشعر بما يعانيه الآخر من ألم الحرمان، وينبذ الفساد ويأبى الظلم والطغيان ويرحم الحيوان ويصون البيئة ويحفظها.

أكاد أزعم أنه إذا تمكن إعلامنا من التعريف بالرسول “صلى الله عليه وسلم” بهذه الصورة الواضحة؛ سيكون قد انتصر لرسول الله، ودافع عنه، وأفحم الإعلام الغربي المادي، بل سيُلقنه درساً لن ينساه بما يناسب جرأته وتبجحه بزعم حرية الفكر والتعبير.

وأود أن أذكر ونحن بصدد هذه القضية أنني عندما كنت في العاصمة السعودية الرياض عام 2013م مشاركاً في مؤتمر «الحوار وأثره في الدفاع عن النبي “صلى الله عليه وسلم”»، والتقيت بـ«أرنود فاندرو»، أحد المساهمين في إنتاج الفيلم المسيء للرسول صلى الله عليه وسلم، وكان هو الآخر مشاركاً في المؤتمر، وإن الرجل كان إذا تكلم عن مشاركته في صناعة الفيلم المسيء بكى وتألم واعترف أنه اقترف أعظم جرم في حياته قبل أن يشرح الله صدره للإسلام، وأن السبيل إلى التكفير عن ذنبه السابق هو الإعلام في المرتبة الأولى، وعاهد الله أنه سيسعى جاداً ليُسهم من جديد في إنتاج فلم موثق للتعريف برسول الله “صلى الله عليه وسلم” وتقريب صورته إلى أذهان من خدعهم الإعلام الغربي وضللهم، وزرع بذور الكره لنبي الإسلام في صدورهم.. وختاماً، نسأل الله له التوفيق، ونسأل الله السداد لكل الإعلاميين الأحرار في مشارق الأرض ومغاربها ممن يدافعون عن الإسلام ونبيه الكريم.

Exit mobile version