عرض: “التصوف السياسي” في السنغال بوصلة إدارة المناشط الحزبية

نشر موقع “مركز الجزيرة للدراسات” ورقة تتناول موضوع التصوف وتأثيره على الحياة السياسية في السنغال، والتي أعدها “عبيد إميجن”،

 

 

 

نشر موقع “مركز الجزيرة للدراسات” ورقة تتناول موضوع التصوف وتأثيره على الحياة السياسية في السنغال، والتي أعدها “عبيد إميجن”، وهو باحث موريتاني مهتم بالشؤون الأفريقية، حيث بدأت مقدمة الورقة باستعراض موقع الصوفية لدى الرئيس السنغالي، فبرغم علمانية الدولة التي أقرها ويحفظها ويحميها الدستور، فإن تغلغل الصوفية مكنت لها وجعلتها ضمن اهتمامات الرئيس، أي رئيس يحكم، حيث يربط الرؤساءَ السنغاليين بالطرق الصوفية تاريخٌ طويلٌ من المواقف المؤثِّرة، فبفضل الطرق الصوفية استقى أول رئيس للبلاد “ليوبولد سيدار سنغور” (Léopold Sédar Senghor) شرعية حكمه، على الرغم من انتمائه للأقلية الكاثوليكية الرومانية، وبالطرق الصوفية احتمى جلُّ الرؤساء بمن في ذلك الرئيس الحالي “ماكي عبدول صال”، كما انتقم مشايخ “طوبا”، و”كولخ”، و”تواوين” من الرئيس السابق “عبدو ضيوف” حين حاول تجاوزهم، فاتهموه بالسير بالبلاد صوب “العلمانية المفترسة للروحانية”؛ وذلك قبل أن يستبدل به أتباع الشيخ “أحمدو بمبا”، خصمه السياسي العنيد الأستاذ “عبدالله واد”!

المريدية طريق الزعماء للرئاسة:

وضع الكاتب يده على خصائص المجتمع السنغالي والذي يتكون من إثنيات متساكنة دون أن تنصهر هذه القبائل الأفريقية في وحدة سياسية أو لغوية، وأبرز تلك الإثنيات والجماعات جماعة الأخوة المريدية والتجانية الوزن السياسي الأهم في البلاد؛ إذ إنهم يؤثِّرون على أتباعهم على مستوى تسويق المنتجات الزراعية؛ حيث يشتغل بها ثلاثة أرباع السنغاليين، ولديهم قدرة على حشد أتباعهم وقيادتهم وأورد الكاتب عدة أمثلة، أهمها:

أولاً: نموذج قصة اعتقال نجل الرئيس السابق “كاريم عبدالله واد” في ملفات فساد وهو مشتبه فيه بالاستيلاء على أموال عامة؛ وذلك خلال عمله مستشاراً لوالده، إلا أن والده الذي يحسب نفسه من أتباع الطريقة المريدية قام بخطوة غريبة تدل على تجذر وتأثير جماعات المريدة في السنغال عندما أعلن عن إشعال ثورة دينية بالاعتماد على بعض من كبار المشايخ، ومستلهماً في التصريحات التي أطلقها عقب رجوعه من باريس دور زعيم الثورة الإيرانية الراحل “آية الله الخميني” للضغط على الرئيس السنغالي، وإرغام الائتلاف الحاكم على الإفراج عن نجله المسجون منذ عدة أشهر، تحت طائلة الكسب غير المشروع.

ثانياً: استعرض الكاتب قصة فوز الرئيس “عبدالله واد” قائلاً: لما وصل الأستاذ “عبدالله واد” إلى الحكم، كان يتعمد المجاهرة بانتمائه إلى الطريقة المريدية، كما حاول الضغط على منافسيه خلال الانتخابات الأخيرة حين قطع حملته ونزل ضيفًا لدى الخليفة العام.. لقد كان تصرفاً ذكياً من سياسي عنيد وحاذق؛ فهو يسعى إلى امتصاص هذه القوة الهائلة بغية تعزيز سلطاته، وذلك على الأقل في أعين الناس، وقد وُجِّهت له حينها انتقادات لاذعة من لدن المعارضة بسبب ارتباطه بشيوخ الطرق الصوفية، ويقال: إن الخليفة العام للطريقة المريدية يقف خلف إسقاط نظام “عبدو ضيوف” عام 2000م، عندما جاهر عام 1992م بمعارضته الشديدة لزيارة البابا “بولس الثاني” للسنغال، دون أن يثني ذلك الموقف حكومة الرئيس “ضيوف” عن مساعيها لاستضافة الحبر الأعظم، فكان الردُّ هو إعلان الخليفة دعمه القوي للخصم التقليدي لضيوف، الأستاذ “عبدالله واد” باعتباره “مريداً خالصاً”.

ثالثاً: عارض كبار أساطين الطريقة التجانية بشدة الرئيس “سنغور” باعتباره ينتمي إلى الأقلية المسيحية التي تناهز الـ5% من تعداد السكان العام، وخلال تلك الحقبة واجه أحد أبرز شيوخ الطريقة التجانية بالسنغال الشيخ “إبراهيم إنياس” التبشير داخل الأوساط السنغالية، ونظَّم مناظرات وجولات مع الفاتيكان، لكن الرئيس الراحل “سنغور” فهم مبكراً تأثير مشايخ الطرق الصوفية؛ التي يُقَدَّر أتباعها بأكثر من 90% من سكان البلاد، فلم يمنعه انتماؤه المسيحي من التقرُّب من هؤلاء، وبالأخص الطريقة المريدية التي أقام معها علاقات مكَّنته من إدارة البلد دون منغصات تُذكر.

الطرق الصوفية جسر ودبلوماسية السنغال:

استعرض الكاتب في ورقته أيضاً تأثير الطرق الصوفية على توجهات الخارجية السنغالية، وانطلق من استعراض تاريخهم الذي بدأ أولى بذوره بالسنغال أواخر القرن السابع عشر؛ حيث خاضت حركة الإمام “ناصر الدين” بالجنوب الغربي الموريتاني حرباً دينية مقدسة على ضفتي نهر السنغال؛ وذلك من أجل إقامة دولة ذات طابع إسلامي

وبعد ذلك بعقود قليلة، ظهرت أكبر وأهم مدرسة للتصوف في المنطقة على يد الحاج “عمر طال الفوتي” (1794 – 1864م) بعدما أعلن الجهاد على الممالك الوثنية في السنغال ومالي وأجزاء من موريتانيا قبل أن يتمكن من تأسيس إمبراطوريته الكبيرة، التي امتدت إلى داخل غينيا، اليوم، تعتقد النخبة الحاكمة في السنغال بمحورية الدور الذي يمكن أن تُؤَدِّيه الطرق والزوايا الصوفية؛ سواء في إعادة صياغة المعادلة السياسية على المستوى الداخلي؛ بل امتد الأمر للصعيد «الخارجي» أيضاً وأبرز صوره ما عرف بـ”الدبلوماسية الروحية”.

حيث مارس السنغال الدبلوماسية الروحية من خلال الزوايا الصوفية، خاصة الطريقة التجانية بالنظر إلى امتداداتها التي تشمل الكثير من بلدان العالم، خاصة مصر أيام “جمال عبدالناصر”، كانت علاقة “جمال عبدالناصر” ممتازة مع الشعب السنغالي، وكان يُعَدُّ من أهم الأصدقاء الشخصيين لشيخ الطريقة التجانية الشيخ “إبراهيم إنياس”، وكذلك سعى السنغال إلى استثمار علاقة أتباع هذه الطريقة لتعزيز ارتباطاته الاقتصادية والسياسية والروحية مع المملكة المغربية؛ حيث يوجد ضريح “أبي العباس أحمد التجاني” في مدينة فاس، وقد استطاع المغرب الاستفادة كثيراً من هذا العامل؛ كما وطَّد السنغال علاقاته ببعض حكومات غرب أفريقيا؛ كغينيا ومالي بالتحديد، وحكومات شمال أفريقيا كالمغرب وموريتانيا، عبر أتباع الطريقة التجانية البالغ عددها أكثر من خمسة ملايين مُريد.

وتوصف السنغال بالبلد الأفريقي الأكثر تأثيراً في منظمة المؤتمر الإسلامي، وهو ما مكَّنه من تنظيم قمة الدول الأعضاء في المنظمة عام 2005م، كما تأخذ دكار بعين الاعتبار ما توفره بلدان الخليج العربي من عون اقتصادي من أجل تنفيذ مشروع “السنغال الناهض”، الذي ينجزه الرئيس الحالي، والحكومات السنغالية تشاطر الدول العربية العديد من المواقف السياسية.

الصوفية والاقتصاد

أوضحت الورقة أن الدور الذي تتطلع به الصوفية في السنغال لم يقف عند حدود الروح والدبلوماسية فقط، بل امتد إلى العمق الاقتصادي؛ حيث تضفي على أنشطتها الدينية طابعاً اقتصادياً وتجارياً أيضاً، وفي هذا الصدد يتوافد نحو 3.5 مليون مؤمن من كل أنحاء السنغال وأوروبا والأمريكتين ليلة الأول من يناير من كل عام إلى مدينة “طوبا” المقدسة، لإحياء ذكرى مؤسس الطريقة المريدية الشيخ “أحمدو بمبا مبكي” من قبل السلطات الاستعمارية الفرنسية، ويمثل التضامن الاجتماعي الأساس الذي يرتكز عليه الموسم السنوي “ماكال طوبا”، الذي يؤمَّل منه أن يُشَكِّل فرصة لجلب الملايين من العملات الأجنبية الصعبة إلى خزينة الدولة السنغالية.

كما تزداد الامتيازات التي يحتكرها أتباع هذه الطائفة، وتعود مظاهر كل ذلك إلى طبيعة مشاريع التنمية الاجتماعية والزراعية والاجتماعية التي يضطلع بها المريدون في السنغال، ويعيش نحو 58% من السنغاليين في مناطق ريفية؛ حيث يعملون في صيد الأسماك وزراعة الفول السوداني، وهي مشاريع تتزاحم الطبقات الميسورة من أبناء الطرق الصوفية على الاستثمار فيها، وسجلت الإحصائيات الاقتصادية الحكومية ارتفاعاً كبيراً في الإنتاج الزراعي من هذه الأصناف؛ التي يطلق عليها محلياً تسمية “الاقتصاد غير المقنَّن” داخل المناطق الريفية التي يسيطر عليها أتباع المريدية خاصة، وفوق ذلك فإن نسبة الأنشطة الاقتصادية في مدينة طوبا المقدَّسة وحدها تفوق نسبة الـ60% من مجمل الاقتصاد السنغالي، وتحوَّلت طوبا من قرية تبعد عن العاصمة دكار بـ194 كيلومتراً إلى ثاني المدن السنغالية أهمية.

 

 

 

 

 

 

 

Exit mobile version