محمد رسول الله أعظم هدية للبشرية

يجمع المؤرخون والنقاد وكتاب السير؛ مسلمون، وغير مسلمين، منصفون ومتحاملون، أن أسوأ مرحلة في حياة البشرية هي تلك التي سبقت مولده صلى الله عليه وسلم، وواكبت هذا المولد،

يجمع المؤرخون والنقاد وكتاب السير؛ مسلمون، وغير مسلمين، منصفون ومتحاملون، أن أسوأ مرحلة في حياة البشرية هي تلك التي سبقت مولده صلى الله عليه وسلم، وواكبت هذا المولد، حسب الإنسان فيها أنه كان مستعداً للانتحار، فرداً، وجماعة، والعجيب أنه لم يكن قانعاً بالانتحار، بل كان يتهافت عليه، ويتهالك فيه، كأنه نذره وحلف به، ويريد أن يفي بنذره، وأن يبر قسمه، ولا يحنث فيهما، لقد صور لنا رب العزة هذا الوضع أصدق تصوير، وأجمعه حين قال: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {103}) (آل عمران).

كما شرحه النبي صلى الله عليه وسلم بمثال رائع بليغ فقال فيما أخرجه الشيخان البخاري، ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «مثلي كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقحَّمون فيها، فذلك مثلي ومثلكم: أنا آخذ بحجزكم عن النار هلمَّ عن النار، هلمَّ عن النار، فتغلبوني وتقحمون منها».

وكان لابد من منقذ، لابد من نطاسي ماهر يحدد دواء هذا الدواء.. تدرون من هذا المنقذ، وذلك النطاسي الماهر؟ إنه رحمة الله للعالمين محمد صلى الله عليه وسلم، وكان رحمة للعالمين لأنه لم ينقذ فرداً، أو أسرة، أو قرية أو مدينة أو دولة، وإنما أنقذ البشرية كلها في كل زمان، وفي كل مكان، وفي سائر الأحوال، فكان حقاً أعظم هدية من الله للبشرية.

حسبه أنه مات عن 124 ألف موحد، النخبة منهم عشرة آلاف، من بين هذه العشرة آلاف ألف امرأة، قيادية، وأميرة، وعهد إلى هؤلاء أن يتولوا نصح العالمين، وسياستهم بما فيه سعادتهم في الدنيا، وفي الآخرة، لمن شاء، كما عبر عن هذا ربعي بن عامر «إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة»، ولقد صدقوا في عهدهم، وبروا بيمينهم، كما قال سبحانه: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً {23}) (الأحزاب).

أجل لقد أنقذ صلى الله عليه وسلم البشرية، وهو النبي الأمي، الذي لم يتلق علومه في أعرق المدارس، والمعاهد، والجامعات والأكاديميات فضلاً عن أبسطها من الكتاتيب، والزوايا، والمختصرات، وإنما تلقاها في مدرسة الوحي، والنبوة، كما قال سبحانه: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً {113}) (النساء).

إنه في علومه يشبه هذا الملاح الماهر، الذي لم يتلق أي علوم في المحاضن التقليدية وإنما تلقاها في مدرسة الخبراء، والمجربين، ومهرة الممارسين والمدربين، إذ يُحكى أن فتية من التلاميذ قاموا برحلة ترفيهية بحرية، وكانوا غاية في الحيوية، والنضرة، والنشاط، وكانت لديهم سعة من الوقت، ورأوا أن هذا الملاح الأمي الذي يضرب بمجدافه، ليبحر بهم بالقارب الذي يركبون، أوسع مادة للسخرية، والترفيه عن أنفسهم.

فسأله تلميذ ذكي قائلاً: يا عم اذكر لنا العلوم التي تعلمتها، قال: هذا كلام غريب لم أسمعه من قبل، فسأله ثان: أظنك درست علم الهندسة والجبر والمقابلة، فقال: أي شيء تقول؟ لم أعرف هذا من قبل، فسأله ثالث: أظنك درست علم الجغرافيا والتاريخ، فقال: أهما اسمان لبلدين متجاورين؟ أم علمان على شخصين من الناس؟ فأطلقوا ضحكات وقهقهات عالية، وسأله رابع: كم عمرك يا عم؟ قال: أربعون سنة، قالوا جميعاً: مسكين ضيعت نصف عمرك، وسكتوا، وسكت هو على مضض، وانتظر دوره، والزمان دوَّار.

مضى على هذا الحوار فترة من الزمن، وفجأة اكفهر الجو وتلبدت السماء بالغيوم، وهاجت ريح عاصف، واضطربت الأمواج وتلاطمت، وأوشكوا على الغرق، وهنا قال لهم هذا الملاح الأمي: اسردوا لي يا شباب جميع العلوم التي درستموها، فأخذوا في سرد قائمة طويلة منها، دون أن يفطنوا إلى مقصد هذا الملاح، فقال لهم: هل درستم علم السباحة، وكيف تقودون السفينة أو القارب وسط هذا الجو، وهذه الحال؟ قالوا: لا، قال: وهل تعرفون السباحة إذا غرقت السفينة أو القارب؟ قالوا: لا، قال لهم: إذا كنت ضيعت نصف عمري كما زعمتم، فقد ضيعتم عمركم كله، قالوا: صدقت، وهكذا علوم الأنبياء بما فيهم محمد صلى الله عليه وسلم، إنه علم النجاة أو السباحة للوصول إلى شاطئ السلامة، وبر الأمان.

ويأتي السؤال الثاني: وما الذي قدمه محمد في رحمته بالبشرية؟ نقول: لقد قدم لهم منحاً ربانية، وعطايا، وهبات إلهية بلغت ست منح أو ست هدايا:

الأولى: عقيدة صحيحة نقية خالية من كل شوائب الشرك والوثنية:

 إذ عرف الناس بأصل هذا الوجود، وبأنفسهم، ورسالتهم ومنهاجهم وقدوتهم، والكون الذي يعيشون فيه، والعالم الغيبي، وأعدائهم وحقوقهم، وواجباتهم، وعافيتهم، ومصيرهم. فلما صح ذلك عندهم.. انطلقوا يعملون بكل قواهم لا يرجون ولا يخافون إلا الله الذي يعلم السر وأخفى.

لقد علمهم الشرك، وجحود الربوبية، الجبن والذل، والاستكانة، والفوضى، والقلق، والاضطراب، وشرود الفكر، والجمود، والتقليد الأعمى، فلما منَّ الله عليهم – بواسطة هذا النبي – بعقيدة التوحيد النقية الصافية، إذا هم آمنون، مجموعو الهمة، مستيقظون منتبهون، شجعان، أعزة، يثورون على الظلم، والقهر، والتقليد، لقد قلبت هذه العقيدة الجديدة حياتهم، وحولتها إلى نور ساطع بعد ظلام دامس، إلى أمل وثقة بعد يأس وقنوط، تلك أعظم هدية أهداها محمد للبشرية.

الثانية: وحدة الإنسانية، والتساوي بين الناس جميعاً:

لقد كان الناس قبل الإسلام يعيشون عنصرية، وطبقية لا نظر لها، هذا أبيض، وهذا أسود، هذا عربي، وهذا أعجمي، وهذا سيد، وهذا عبد، وهذا شريف، وهذا وضيع، وجاء محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الإعلان الخالد: «أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى»، إعلان يقوم على مبدأين: وحدة الربوبية، ووحدة البشرية، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13}) (الحجرات).

إن هذا الإعلان سبق ميثاق حقوق الإنسان بخمسة عشر قرناً من الزمان. أين هذا من زعم اليهود والنصارى أنهم الجنس السامي، لأنهم أبناء الله وأحباؤه.

وأين هذا من زعم الفراعنة: أنه يجري في عروقهم الدم الإلهي؟ هل نسينا لقب كسري أبرويز الذي ملك ما بين (590 – 628م)، ووصفه؟ يقولون عنه: «في الآلهة إنسان غير فان، وفي البشر إله ليس له ثان، علت كلمته، وارتفع مجده، يطلع مع الشمس بضوئه، وينير الليالي المظلمة بنوره» هل نسينا ذلك كله؟ إن هذا الإعلان كان الهدية الثانية بعد التوحيد التي منّ الله على البشرية بها على يد محمد صلى الله عليه وسلم، حسبنا أن عمر كان يقول: أبوبكر سيدنا، وأعتق بلالاً سيدنا.

الثالثة: كرامة الإنسان، وسموه، ورفعته:

لقد أصاب الإنسان قبل البعثة المحمدية: من الذل والهوان ما جعله في الحضيض فلا أحقر منه، ولا أصغر على وجه الأرض، كانت بعض الأشجار مقدسة وكانت بعض الحيوانات كذلك، بل بعض الحشرات والزواحف، فأعلن النبي صلى الله عليه وسلم تسخير كل شيء للإنسان حين قرأ (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ‏) (الجاثية:13).

وحين أعلن ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة: أن الله يقول للعبد يوم القيامة: ابن آدم مرضت فلم تعدني.

الرابعة: محاربة اليأس والتشاؤم، وبعث الأمل والتفاؤل:

كان أكثر أفراد النوع الإنساني مصابين باليأس من رحمة الله وبسوء الظن بالفطرة الإنسانية السليمة، وكانت حياتهم مبنية على التشاؤم، فأعلن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يأس: (إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ {87}) (يوسف)، «لا طيرة ولا هامة، ولا صفر…».

وأن الذنوب لا يصح أن تقعد بالإنسان عن أداء واجب: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {53}) (الزمر)، (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً {68}) (الفرقان).

الخامسة: الجمع بين الدنيا والآخرة:

كان الناس قبل الإسلام منقسمين: هذا من عبيد الدنيا، وهذا من طلاب الآخرة، ولا تلاقي فأعلن الجمع بينهما: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ {77}‏) (القصص).

السادسة: تعيين أو تحديد الأهداف والغايات، وميادين العمل والكفاح:

كان الناس قبل البعثة جاهلين الهدف والغاية، لا يدرون: أين الاتجاه أين المصير، ما المجال الحقيقي لتفريغ الطاقات وإظهار المواهب؟

هذه هدايا محمد صلى الله عليه وسلم للبشرية، وليقل المغرضون بعد ذلك ما يقولون، ولن نعبأ بقولهم، لأن هذا دليل الإفلاس.

 

Exit mobile version