تقرير: مستقبل مجهول ينتظر الجنيه المصري

في تطور غير مسبوق بالسوق الرسمية لسعر الصرف بمصر، قفز الدولار بنحو 9 قروش أمام الجنيه خلال يومين فقط، ليصل سعر الشراء 7.23 جنيه للدولار، وسعر البيع 7.27 جنيه للدولار، وذلك حسب الأسعار المعلنة على موقع البنك المركزي المصري يوم الإثنين 19 يناير 2015م.

في تطور غير مسبوق بالسوق الرسمية لسعر الصرف بمصر، قفز الدولار بنحو 9 قروش أمام الجنيه خلال يومين فقط، ليصل سعر الشراء 7.23 جنيه للدولار، وسعر البيع 7.27 جنيه للدولار، وذلك حسب الأسعار المعلنة على موقع البنك المركزي المصري يوم الإثنين 19 يناير 2015م.

مما أدى إلى صعود الأسعار بالسوق السوداء، وتشير التوقعات لاستمرار انخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار خلال المرحلة المقبلة، سواء من قبل توقعات البعض بتوجه الحكومة لتعويم قيمة الجنيه قبل انعقاد المؤتمر الاقتصادي في مارس 2015م، أو في إطار تجهيز الحكومة لملفها للتفاوض مع صندوق النقد الدولي، الذي سيكون أحد شروط المانحين في مؤتمر مارس القادم.

ولا ينبغي أن ينظر إلى سعر الصرف على أنه شيء مقدس، بل هو أحد المتغيرات الاقتصادية التي تشهد عمليات صعود وهبوط، حسب طبيعة الأداء الاقتصادي لأي بلد، ولكن الحالة المصرية لها ظروفها وملابساتها السلبية، حيث تتخذ خطوات بتخفيض سعر صرف الجنيه دون مصاحبة إجراءات اقتصادية أخرى من شأنها أن توجه هذه الخطوة في المسار الصحيح ليكون لها مردود إيجابي.

ففي الوقت الذي تعاني فيه الحكومة من شح في العملات الأجنبية لتمويل احتياجات الاستيراد، وتطالب المستوردين بتدبير جزء كبير من احتياجاتهم من خلال شركات الصرافة أو التمويل الذاتي، تجد السوق السوداء لنفسها فرصة كبيرة لتضغط على المستوردين، ويظل الفارق بين السوق الرسمية والسوق السوداء في حدود 60 قرشاً للدولار الواحد الآن.

وهو هامش ربح مغرٍ، يدفع حتى صغار المضاربين للولوج إلى السوق السوداء وشراء الدولار بغرض المضاربة، وذلك بعد اتخاذ البنك المركزي الأيام القليلة الماضية قراراً بتخفيض سعر الفائدة على الودائع، وحتى في ظل استمرار سعر الفائدة دون تخفيض، فإن هامش الربح المتحقق من المضاربة على سعر الصرف أعلى بكثير عن الإيداع بالبنوك.

ومما يؤسف له أن من الأسباب التي ساعدت بشكل كبير على ارتفاع سعر الدولار بالسوق السوداء خلال الأيام الماضية، زيادة حجم نشاط الاقتصاد الأسود، وبخاصة تجارة المخدرات، التي يلمسها المواطنون بشكل كبير، ويعانون من تداعياتها السلبية، وبخاصة أن الحكومة منصرفة أمنياً في سياسات القمع السياسي لمعارضيها؛ مما أعطى فرصة ومجالاً كبيراً لنشاط تجارة المخدرات.

ومما يزيد من الأخطار السلبية لتخفيض قيمة الجنيه المصري خلال هذه المرحلة، أن أسباب انهيار قيمته مازالت قائمة ولا يتصور أن تشهد تحسناً في الأجل القريب، فمنذ عام 2003م حيث تم تخفيض قيمة الجنيه بنسبة كبيرة إبان حكومة د. عاطف عبيد، طالب الاقتصاديون بتنشيط القطاع الإنتاجي، وبخاصة المتجه للتصدير، وتقليص فاتورة الواردات حتى تحقق خطوة تخفيض قيمة الجنيه الهدف المرجو منها.

ولكن الواقع المُعاش كان بخلاف ذلك تماماً، فالصادرات مازالت دون نسبة 50% من إجمالي قيمة فاتورة الواردات المصرية، على الرغم من مرور أكثر من 12 عاماً، كما أن القطاع الإنتاجي شهد مزيداً من الانكماش، واتجه رجال الأعمال للتجارة والاستيراد، بدلاً من إنعاش الصناعة وتوظيف العمالة؛ مما زاد من معدلات البطالة والفقر، وكذلك استمرار معدلات التضخم عند معدلات مرتفعة، بسبب التضخم المستورد المصحوب بتقلبات الأسعار في السوق العالمية، وبخاصة في مجالين حيويين بالنسبة لمصر، وهما الغذاء والطاقة، فمصر تحولت لمستورد صافٍ للطاقة منذ عام 2008م، كما أن فاتورة الغذاء تمثل 25% من إجمالي الواردات المصرية البالغة نحو 60 مليار دولار.

قد تطول عملية شرح التداعيات السلبية لخطوة تخفيض قيمة الجنيه المصري، ولكن المهم هنا أن نشير إلى مصير قيمة الجنيه خلال المرحلة المقبلة، وهل ستكون سياسة تخفيض قيمة الجنيه ناجعة ومحققة للهدف منها في ظل الظروف الاستثنائية التي تعيشها مصر خلال المرحلة الحالية، والتي يتوقع لها أن تستمر في الأجلين المتوسط والطويل ما لم يتم التوصل لتسوية سياسية، لإصلاح ما تم هدمه بعد انقلاب 3 يوليو 2013م؟

ملامح المستقبل

هناك مجموعة من الأسباب تجعل تعرض الجنيه المصري لانخفاضات مستمرة مقبولة خلال الفترة القادمة، سواء كانت هذه الأسباب تتعلق بعوامل داخلية أو خارجية، وفيما يلي نتناول هذه الأسباب بشيء من التفصيل.

– السياسات الاقتصادية الخاطئة: مازالت العقلية التي تدير السياسات الاقتصادية في مصر قائمة على تبني أجندة المنظمات المالية العالمية، بالتركيز على تحسن بعض المؤشرات النقدية والمالية، دون النظر إلى تحسن الأداء في القطاعات الإنتاجية، وبخاصة في قطاعي الزراعة والصناعة، لقد نجحت مصر على مدار خمس سنوات بعد عام 1991/1992م في تخفيض عجز الموازنة وتثبيت سعر الصرف وتحرير سعر الفائدة، وانخفاض معدلات التضخم، ومعالجة أزمة المديونية الخارجية.

ولكنها فشلت في تحريك القطاع الإنتاجي، وشجعت الأنشطة الريعية وذات الربح السريع، وساوت بينها وبين أنشطة القطاعات الإنتاجية من حيث المعاملات الضريبية والجمركية؛ مما ساعد على هجرة قطاع كبير من رجال الصناعة والزراعة إلى العمل في قطاع الخدمات، والمضاربات في البورصة.

وهي نفس السياسة المتبعة الآن، ولعل المتابع للبورصة المصرية يلحظ هذا التركيز، من استقدام استثمارات أجنبية وعربية للبورصة، وارتفاع مؤشرها العام، وكذلك قيمة حجم التداولات، وزيادة القيمة السوقية، وانتشار ظاهرة المولات التجارية الضخمة، بما لا يتناسب مع دخول المصريين، الذين يعانون من الفقر والبطالة.

إن المردود الطبيعي لهذه السياسات أن يظل ميزان العملات الأجنبية لمصر مختلاً، حيث يزيد الطلب على العملات الأجنبية لتلبية الاحتياجات المستمرة، بينما التدفقات الداخلة ضعيفة، ومن مصادر غير مستقرة، مثل السياحة والاستثمارات الأجنبية، وقناة السويس، ولم يعد النفط مصدراً للتدفقات النقدية، بعد أن أصبحت واردات مصر من النفط تفوق صادراتها.

– عودة “الدولرة”: في ظل ارتفاع معدلات التضخم، وانخفاض سعر الفائدة على الودائع بالجهاز المصرفي، ومحدودية فرص الاستثمار أمام متوسطي وصغار المدخرين، تصبح “الدولرة” هي الحل للحفاظ على ثروات هذه الشريحة من المدخرين، وأصحاب العملات الأجنبية، حيث يتجه الأفراد لشراء الدولار والاحتفاظ به، من أجل مواجهة التخوفات الحاصلة بشأن تراجع قيمة الجنيه المصري.

وتعد “الدولرة” البديل الآمن والأسهل لدى المصريين لسهولة تسييل ما لديهم من مدخرات من العملات الأجنبية، وبالقدر الذي يحتاجونه، بخلاف الأخطار الكبيرة التي تجتاح البورصة أو الركود الذي يعم قطاع العقارات منذ فترة.

اللجوء للاقتراض الخارجي: أعلنت الحكومة المصرية أنها بصدد تنظيم اكتتاب في الأسواق الدولية في سندات بقيمة 1.2 مليار دولار، بعد انعقاد مؤتمرها الاقتصادي في مارس القادم، ولا شك أن هذه الخطوة تعطي انطباعاً لدى حائزي الدولار بصعوبة الوضع بالنسبة للحكومة، وأن رصيدها من النقد الأجنبي لا يسمح لها بالتعافي وتدبير مثل هذا المبلغ المتواضع، وبخاصة بعد تناقص احتياطي النقد الأجنبي إلى 15.3 مليار دولار.

ختاماً: الوضع الحالي لوصول قيمة الدولار إلى 7.27 جنيه في السوق الرسمية، أو 7.85 جنيه في السوق السوداء، ليس نهاية المطاف، وأن هناك تخفيضات أخرى ستشهدها قيمة الجنيه، ما لم تتجه السياسات الاقتصادية نحو إستراتيجية صحيحة لتحسين معدلات وهيكل النمو الاقتصادي في مصر.

 بحيث يكون عماد الناتج المحلي الاستثمار والادخار، وليست الاستهلاك والاستيراد، وأن يكون لدى مصر احتياطي نقدي حقيقي من موارد ذاتية، وليس مجرد تجميع ودائع من دول الخليج وتركيا وليبيا.

 

Exit mobile version