تقرير خاص: العجز والتقشف والديون.. تحديات تواجه الدول النفطية

منطق التعامي، أو منهجية وضع الرؤوس في الرمال، هو أفضل وصف يمكن إطلاقه على تناول المعالجات العربية للأزمات، فمنذ ستة أشهر وأزمة انهيار أسعار النفط في السوق العالمية تُلقي بظلالها السلبية على الاقتصاديات العربية، ولكن عدداً لا بأس به من المسؤولين العرب

منطق التعامي، أو منهجية وضع الرؤوس في الرمال، هو أفضل وصف يمكن إطلاقه على تناول المعالجات العربية للأزمات، فمنذ ستة أشهر وأزمة انهيار أسعار النفط في السوق العالمية تُلقي بظلالها السلبية على الاقتصاديات العربية، ولكن عدداً لا بأس به من المسؤولين العرب خرج لوسائل الإعلام ليعلن عدم تأثر بلاده بتلك الأزمة، وأنهم جاهزون لانخفاض أسعار النفط لأكثر مما هي عليه في السوق العالمية.

ولكن الواقع حمل إلى هؤلاء المسؤولين والشعوب العربية ما لا يشتهونه، فانهيار أسعار النفط لـ60 دولاراً للبرميل، أربك حسابات الحكومات النفطية العربية، التي كانت تؤمل في سعر 90 دولاراً في البرميل مع بداية الأزمة، ثم 80 دولاراً للبرميل، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.

القراءة الواقعية في معادلة أسعار النفط في السوق العالمية، يتبين منها أن الدول النفطية العربية في طرف المتغير التابع، وليست في طرف المتغير المستقل، وبالتالي فسيناريوهات الهبوط أو الصعود لأسعار النفط ليست في يد الدول العربية، ولكن يتوقف ذلك على قدرة أطراف الصراع على إنهائه أو إطالته، حسب تقدير كل طرف للمصالح التي يجنيه في سيناريوهات إنهاء أو إطالة الأزمة.

ومن الأمور التي فرضت نفسها على اقتصاديات الحكومة النفطية العربية، حلول العام الميلادي الجديد، والذي يتوافق مع الإعلان عن الموازنات المالية الجديدة لتلك الدول، وهو ما أسفر عن حجم المشكلات والآثار السلبية التي عكستها أزمة انهيار أسعار النفط على هذه الموازنات بشكل خاص، وعلى أداء الاقتصاديات النفطية العربية بشكل عام.

ومن خلال متابعة سريعة لقراءة ما أسفرت عنه أزمة انهيار أسعار النفط على الاقتصاديات النفطية العربية، يتبين ما يلي:

– عودة العجز:

كانت الدول النفطية العربية قد ودعت مشكلة عجز الموازنات مع حلول عام 2003م؛ حيث الطفرة النفطية الثالثة، التي استمرت حتى نهاية يونيو 2014م، ولكن مع إعداد موازنة العام المالي 36/1437هـ بالمملكة العربية السعودية، والذي يتوافق مع العام 2015م، تبين أن هناك عجزاً بالموازنة الجديدة يقدر بـ145 مليار ريال سعودي، وبما يعادل نسبة 5.2% من الناتج المحلي الإجمالي، كما أن الإنفاق العام قدر بحدود 860 مليار ريال سعودي، أي ما يقل بنحو 240 مليار ريال سعودي عن الإنفاق الفعلي لعام 2014م.

كما أن الإيرادات المقدرة بالموازنة هبطت إلى 715 مليار ريال سعودي، بفارق 331 مليار ريال سعودي عن المتحقق في نهاية عام 2014م، وهو ما يوضح حجم الأزمة، بغض النظر عن امتلاك السعودية لاحتياطيات من النقد الأجنبي أو أصول صندوقها السيادي، فبلا شك أن تراجع الإيرادات ينم عن خصم من موارد كانت متاحة في ظل ارتفاع أسعار النفط.

والدلالة التي ينبغي أن نقف عندها فيما يتعلق بتصرف المملكة العربية السعودية في موازنتها السنوية بتخفيض توقعاتها للنفقات والإيرادات، أننا نتحدث عن أكبر دولة منتجة للنفط في العالم، بسقف إنتاج يصل لـ9.5 مليون برميل يومياً، ولديها إصرار على عدم التراجع عن استمرار سقف إنتاجها على الرغم انهيار الأسعار عالمياً.

– تقشف وتسريح عمالة:

الجزائر وهي دولة عربية نفطية، خارج منظومة دول الخليج، ولها ظروف اقتصادية مغايرة، عيَّشتها على مدار العقدين الماضيين، إلا أنها بفضل الطفرة النفطية الثالثة استطاعت أن تكوِّن احتياطياً من النقد الأجنبي بحدود 201 مليار دولار بنهاية عام 2013م، ومع التدهور في أسعار النفط لم تجد الجزائر بُداً من الإعلان عن تبنيها سياسة تقشفية، وأنها سوف تلجأ إلى تسريح العمالة بالمؤسسات العامة، وهذه نتيجة طبيعية لاقتصاد يعتمد على عوائد النفط بنحو 95%.

ولكنه في نفس الوقت ينم عن غياب الرؤية الاقتصادية، فعلى مدار سنوات، لم يتمكن الاقتصاد الجزائري من تغيير تركيبته الهيكلية ليكون اقتصاد شبه منتج، أو أن يكون لديه بدائل لمواجهة أزمة انهيار أسعار النفط، وهي أزمة متكررة، وتفرض نفسها عن التفكير في أي إستراتيجية لبناء اقتصادي في الجزائر.

لقد كانت البطالة في الجزائر قبل عام 2003م من أعلى المعدلات في المنطقة العربية، حيث كانت بحدود 30%، ولكن مع الطفرة النفطية والتوجه لتنفيذ بعض مشروعات البنية التحتية انخفضت هذه المعدلات لحدود 10%، ولكن مع دخول توجهات الحكومة لحيز التنفيذ، وتطبيق الإجراءات التقشفية وتسريح العمالة، سوف يشهد معدل البطالة في الجزائر قفزات كبيرة.

ومن عجب أن الجزائر واحدة من الدول العربية والمتوسطية التي توصلت لاتفاقية للشراكة مع الاتحاد الأوروبي منذ سنوات، ولكن هذه الشراكة لم تؤدِّ إلى أي تغيير في بنية الاقتصاد الجزائري، ليكون اقتصاداً إنتاجياً، أو أن ينجح في تخفيف اعتماده على النفط.

– استنزاف الاحتياطي:

تعيش ليبيا ظروفاً استثنائية بسبب حربها الأهلية التي تعيشها على مدار الشهور الماضية، وإن كان ذلك لا يغير شيئاً من كونها دولة نفطية، تعتمد في اقتصادها بالكلية على عوائد النفط، ومما سيعمق أزمة ليبيا الاقتصادية خلال الفترة القادمة استهداف مؤسسات النفط، سواء كانت خزانات النفط أو آبار الإنتاج.

بلغ العجز في الموازنة الليبية خلال العام 2014م نحو 50%، حيث بلغت الإيرادات العامة لليبيا 14.8 مليار دولار، وبلغت النفقات العامة 29.6 مليار دولار، ومما لا يحتاج لتدليل أن هذا العجز مرشح للزيادة خلال عام 2015م، بسبب انهيار أسعار النفط من ناحية، ومن ناحية أخرى احتمالات كبيرة بتراجع حصة ليبيا من النفط في السوق العالمية بسبب الاعتداءات المتكررة على المؤسسات النفطية.

لم تجد ليبيا مخرجاً لتغطية عجز موازناتها سوى اللجوء للاحتياطي من النقد الأجنبي، الذي بلغ 119 مليار دولار بنهاية عام 2013م، إلا أن البنك المركزي الليبي أعلن عن سحبه لـ7 مليارات دولار أوائل ديسمبر الحالي من الاحتياطي، ويتوقع سحب 6 مليارات أخرى، لمواجهة تعطيل الصادرات النفطية.

ولم تكن ليبيا فقط هي من لجأت لاحتياطياتها من النقد الأجنبي، فالسعودية أعلنت عن سحبها لـ50 مليار دولار من احتياطياتها من النقد الأجنبي، وهو الأمر المرشح بقوة أن تلجأ إليه باقي الدول النفطية العربية.

– الديون الخارجية:

في سلطنة عُمان، أعلن أنه تتم دراسة إصدار سندات خارجية لتغطية عجز الموازنة هناك خلال عام 2015م، ويعد ذلك منحى جديداً في حالة سلطنة عُمان، بسبب ضعف إمكاناتها فيما يتعلق باحتياطيات النقد الأجنبي التي تقف عند حاجز 15.9 مليار دولار.

إن اللجوء لخيارات الديون الخارجية طرح من قبل أكثر من دولة نفطية عربية، وأنه ستتم عملية مقارنات بين تكلفة الاقتراض الخارجي واللجوء إلى احتياطيات النقد الأجنبي.

إن دخول الدول النفطية في دوامة الديون الخارجية، سيجعلها تفتح باباً جديداً لأعباء موازناتها، يتمثل في خدمة هذه الديون من حيث الفوائد والأقساط، وهو ما يعني التأثير السلبي على مخصصات الإنفاق العام، وتراجع الإنفاق على خدمات ازدهرت في الدول النفطية خلال المرحلة الماضية، وخاصة في دول الخليج، وهذه القطاعات هي التعليم والصحة، لقد كان الإنفاق على خدمات التعليم والصحة في دول الخليج خلال السنوات العشر الماضية سبباً في ارتقائها لترتيبات متقدمة على مؤشر التنمية البشرية على الصعيد العالمي.

ولا تقوم الدول النفطية العربية بطرح مستقبل الأزمة النفطية وما يترتب عليها على مواطنيها، حتى يكونوا شركاء في قرارات مواجهة الأزمة والنتائج المرتبة عليها، وذلك لافتقاد هذه الدول لبرلمانات حقيقية، ولغياب ثقافة المساءلة لدى مواطنيها.

Exit mobile version