تقرير: لماذا تلدغ مصر من جحر القمح من جديد

في أغسطس 2010م أوقفت روسيا صادراتها من القمح للخارج بسبب الاضطرابات المناخية، واتجهت روسيا في ذلك الوقت إلى تخصيص محصول القمح للوفاء باحتياجاتها الداخلية، وهو ما أوقع مصر في أزمة في ذلك الوقت، وعرضها للاستيراد من دول أخرى بأسعار مرتفعة، ونفس الموقف ي

في أغسطس 2010م أوقفت روسيا صادراتها من القمح للخارج بسبب الاضطرابات المناخية، واتجهت روسيا في ذلك الوقت إلى تخصيص محصول القمح للوفاء باحتياجاتها الداخلية، وهو ما أوقع مصر في أزمة في ذلك الوقت، وعرضها للاستيراد من دول أخرى بأسعار مرتفعة، ونفس الموقف يتكرر في ديسمبر 2014م.

حيث أشار تقرير لمجلس الحبوب الروسي بوقف صادرات الحبوب لخارج روسيا بسبب الأزمة الاقتصادية التي تعيشها روسيا، حتى يتم توفير احتياجات البلاد من الحبوب، وأن الحكومة الروسية سوف تفرض رسوماً على صادرات الحبوب، وأن هذه الرسوم ستكون تعجيزية، وأن البلاد التي ستتأثر من قرار روسيا هي تركيا وإيران ومصر.

ومصر هي المستور الأول للقمح في العالم، حيث تستورد ما بين 6.5 مليون طن إلى 7 ملايين طن سنوياً، ومنذ سنوات يفي الإنتاج المحلي لمصر نسبة 50% من احتياجاتها من القمح، والغريب أن السياسات الزراعية والاقتصادية في مصر لم تعر هذا الأمر أي أهمية على الرغم من كون القمح سلعة إستراتيجيةس تتعلق بأمن مصر الغذائي.

بدأت مصر رحلة استيراد القمح في نهاية الستينيات من القرن العشرين في عهد “عبدالناصر” باستيراد 10 آلاف طن قمح، ثم استمرت الفجوة حتى تفاقمت في نهاية عصر “السادات” وطوال عهد “مبارك”، ثمة اتهامات عدة توجه للقائمين على أمر الحكم في مصر، ما بين العمولات التي يحصلون عليها نظير الاستمرار في الاستيراد، أو التبعية لأمريكا، وأن هذا الملف تحيط به شبهات سياسية أكثر منها اقتصادية، إذ استمرت أمريكا لفترات طويلة من أكبر مصدري القمح لمصر، ولذلك حرصت أمريكا على أن يكون موقف مصر الدائم هو التبعية في تدبير احتياجاتها من سلعة إستراتيجية مثل القمح، حتى يمكن الضغط عليها في مواقف سياسية أخرى تخص الداخل المصري أو المنطقة العربية.

ومن عجب أن مصر أرض النيل، والتي يعمل نحو ربع قوة العمل بها في مجال الزراعة تعاني من أزمة توفير غذائها، ويضرها لتخضع لضغوط الأسواق العالمية في مجال الغذاء، وإذا ما كنا نتحدث عن القمح، فإن أهل الذكر يقولون بأهمية أن تتبنى مصر إستراتيجية لتوفير نسبة 70% من احتياجاتها من القمح ذاتياً، لتوازنات التركيب المحصولي، حتى تتاح كميات من المحاصيل الأخرى، وبخاصة البرسيم الذي يعد عماد الغذاء الحيواني في مصر، وأن يتم توفير 20% من الذرة ليخلط بالقمح لتوفير الخبز، وتظل نسبة 10% فقط من احتياجات مصر من القمح، يتم تدبيرها عن طريق الاستيراد، ويفضل أن يكون ذلك من خلال التعاون الاقتصادي مع السودان، لاعتبارات الأرض الخصبة، وسهولة المواصلات، وانخفاض تكاليف النقل، وتأكيد لأواصر التعاون الاقتصادي بين البلدين.

إصرار على الهدم:

خلال العام المالي 2012/2013م التي تولى فيه الرئيس المنتخب “د. محمد مرسي” رئاسة مصر، استطاعت مصر أن تخفض استيرادها من القمح بنسبة 10%، وأُعلن أن هناك سياسة زراعية واقتصادية تتجه، لتحقيق اكتفاء ذاتي نسبي من القمح، بحيث تكون نسبة الاستيراد غير مؤثرة، ويمكن تدبيرها بسهولة دون أن تمارس ضغوط على مصر.

ولذلك اتجهت مصر لتشجيع المزارع على زراعة القمح من خلال الحافز المادي ليكون المحصول ذا مردود اقتصادي، ولا يقتصر اهتمام الفلاح فقط على زراعة ما يحتاجه هو وأسرته فقط؛ ولذلك نجحت هذه السياسة في تحسن الإنتاج المحلي من القمح في هذه السنة ليقل استيراد مصر من القمح بنحو مليون طن، ولم يقتصر دعم الفلاح في مجال زراعة القمح على الحافز المادي، بل قدمت له خدمة الإرشاد الزراعي بشكل ملموس مما أدى إلى تحسن الكميات المنتجة في هذا العام.

ولكن بعد الانقلاب عادت مصر لتبني سياسة الاستمرار في الاعتماد على استيراد القمح، وخرج على الشعب المصري وزير التموين ليقول: إن كون مصر المستورد الأول للقمح في العالم ميزة وليست نقطة ضعف؛ لأن مصر تحدد في هذه الحالة الدول التي تستورد منها، وهو منطق يخالف العقل والواقع، فالمستورد عادة هو من يكون في موقف ضعف وليس المصدر، وبخاصة في سلعة ليست ترفيهية، ولكنها سلعة لها اعتبارها على الصعيد العالمي، وبخاصة منذ دخول العالم في دوامة الاضطرابات المناخية. 

لاشك أن الموقف الروسي سوف يفرض على مصر التزامات مالية جديدة هي في غنى عنها، وبخاصة في ظل أزمتها المالية التي تمر بها منذ سنوات، حيث إن التعاقدات العاجلة عادة ما تكون ذات تكلفة عالية، وإلا سوف يتعرض مخزون مصر من القمح للتناقص بشكل كبير، وهو ما يعني موجة من الغلاء في العديد من السلع الغذائية بمصر، وبخاصة تلك التي تعتمد على القمح كمكون رئيس في إنتاجها.

ويأتي هذا الملف ليمثل نقط ضعف في العلاقات المصرية الروسية، حيث عولت مصر عبر إعلامها أنها تتجه شرقاً لتقوي علاقاتها مع روسية، وأكد هذا زيارة قائد الانقلاب العسكري في مصر لروسيا قبل توليه الرئاسة، ففقدان صادرات روسيا من القمح لمصر، ليصيب حجم التبادل التجاري بين البلدين في مقتل.

إنذارات متعددة:

تلقت مصر العديد من الإنذارات الكفيلة بأن تغير من سياساتها الزراعية والاقتصادية، لكي تتبنى منهجاً جديداً في هذا الملف، منهجاً يعتمد على تقليص الواردات، ويجنبها تقلبات الأسواق والعوامل الخارجية، ولكن لم تلق هذه الإنذارات آذاناً صاغية، ولا اهتماماً من صانعي السياسة العامة في مصر.

ففي عام 2007/2008م مر العالم بما عرف بأزمة الغذاء، وكانت مصر واحدة من تلك البلدان التي دفعت فاتورة عالية نظير تدبير احتياجاتها من الغذاء، حيث تستورد مصر نحو 40% من احتياجاتها الغذائية سنوياً، وتمثل واردات مصر من الغذاء نحو 25% من فاتورة الواردات البالغة نحو 60 مليار دولار في نهاية العام المالي 2013/2014م.

تلى ذلك أزمة التقلبات المناخية التي أدت لاتخاذ روسيا موقفها من تصدير الحبوب الذي أشرنا إليه في مقدمة هذه السطور في عام 2010م، ثم تكرر الأمر في نهاية عام 2014م، وهو ما يعني أن سياسة الاعتماد على استيراد الغذاء بصفة عامة، والقمح بصفة خاصة سياسة خاطئة.

إن تكرار أزمة القمح بهذه الصورة في مصر، وعدم اكتراس صانع السياسة باتخاذ قرارات مصيرية تتناسب وطبيعة الأزمة، يعبر عن سوء طوية، ويؤكد ما ينشر عن وجود مستفيدين ممن هم في دوائر الحكم بوجود الأزمة واستمرارها، فقد نُشر أن إمبراطورية استيراد القمح في الجهاز الحكومي يأخذون عمولة تصل لـ35 دولاراً عن كل طن؛ وهو ما يعني حصولهم على نحو 250 مليون دولار سنوياً، في الوقت الذي تمر فيه البلاد بأزمات اقتصادية متعددة من بطالة وفقر ومديونية، ومما يؤكد شبهات الفساد في مجال استيراد القمح توجه الحكومة المصرية منذ سنوات بالسماح للقطاع الخاص باستيراد القمح لصالح الحكومة، على الرغم من وجود هيئة السلع التموينية صاحبة الخبرة الطويلة في هذا المجال.

في الختام نجد أن ملف استيراد القمح وطريقة تعامل الحكومات المصرية المتعاقبة معه رغم الإنذارات بخطورة الأمر، ينم عن أن الإدارة الاقتصادية في مصر، لا تمتلك تصوراً إستراتيجياً، يدعم وجود مشروع تنموي، فتأمين الغذاء لأية مجتمع هي البداية الصحيحة، للانطلاق الاقتصادي.

 

Exit mobile version