تحليل: تراجع الأسعار سلاح “أوبك” لتخفيض إنتاج النفط وضبط الأسواق

مع تراكم المعروض من النفط نتيجة التنافس على الحصص، تستمر وتيرة انخفاض الأسعار كسلاح للضغط من أجل تخفيض الإنتاج، خصوصاً لدى الدول المنتجة التي تعاني من ارتفاع كلفة البرميل

 

 

 

مع تراكم المعروض من النفط نتيجة التنافس على الحصص، تستمر وتيرة انخفاض الأسعار كسلاح للضغط من أجل تخفيض الإنتاج، خصوصاً لدى الدول المنتجة التي تعاني من ارتفاع كلفة البرميل، وذلك حرصاً منها على قيمة ثرواتها في باطن الأرض، وتبرز في هذا المجال أهمية النفط الصخري الأمريكي والنفط الروسي، مقابل الفارق الكبير مع انخفاض كلفة برميل النفط العربي، وقدرة دول الخليج المالية على استيعاب خفض الأسعار، وتمسكها بحصتها من الإنتاج.

لقد اعتادت أسواق النفط على ارتفاع الأسعار في موسم الشتاء من كل عام، بسبب زيادة الطلب على استهلاك الوقود، ولكن هذه السنة يبدو الوضع مختلفاً، حيث تشهد الأسواق تراجعاً قياسياً بالأسعار، لأسباب اقتصادية وسياسية، مع توقعات باستمرار هذا التراجع حتى منتصف عام 2015م، ووفق السيناريوهات المتداولة، قد يصل سعر البرميل إلى 43 دولاراً وهو الأدنى (والأسوأ وفق المؤسسة المالية الأمريكية “مورجان ستانلي”)، ولكن تفاؤل مؤسسة البترول الكويتية يجعلها تتوقع أن يظل السعر قرب 65 دولاراً للبرميل في الأشهر الستة أو السبعة المقبلة، غير أن هذه التوقعات تبقى مرهونة بتعافي الاقتصاد العالمي وارتفاع الطلب مستفيداً من انخفاض الأسعار، وكذلك تطورات سياسية واقتصادية قد تفرض تعديلاً في خطط الإنتاج لدى الدول المعنية.

مسئولية الفائض

خلافاً لما هو متداول بأن الفائض هو فقط نحو 1.5 مليون برميل، وفي حال خفضت “أوبك” إنتاجها من 30 مليون برميل إلى 28.5 مليون برميل يومياً، تنتهي المشكلة وتعود الأسعار إلى الارتفاع، فإن الواقع الإحصائي الحقيقي يشير إلى أن الفائض لا يقل عن ثلاثة ملايين برميل، على أساس أن المعروض من النفط الخام يصل إلى 97 مليون برميل يومياً، في حين أن الطلب العالمي لا يتجاوز 94 مليوناً، ومع إضافة مخزون النفط في ناقلات عملاقة وفي مناطق مختلفة، يصبح الفائض الحقيقي أكثر من عشرة ملايين برميل جاهزة للتصدير.

ومن هنا، فإن المملكة العربية السعودية وهي أكبر دولة منتجة ومصدرة، رفضت تحميل أوبك مسئولية أزمة الأسعار، مؤكدة أن استقرار السوق النفطية يتطلب تعاون البلدان المنتجة خارج منظمة البلدان المصدرة، والتي تصل حصتها إلى 65% من المعروض مقابل 35% حصة أوبك، وأشار بيان رسمي للحكومة السعودية إلى ترحيبها بقرار أوبك في اجتماعها الأخير بعدم تخفيض الإنتاج، ووصفته بأنه “يعكس تماسك المنظمة ووحدتها وبعد نظرها”.

وتبرز في هذا المجال قدرة أوبك على تحديد اتجاهات الأسعار عند حدوث الأزمات الاقتصادية العاصفة، وسبق لها أن اضطرت في محطات زمنية عدة إلى خفض الإنتاج إلى مستويات متدنية من أجل دفع الأسعار إلى التماسك، مثال على ذلك في عام 1986 عندما خفضت المنظمة إنتاجها إلى 16 مليون برميل يومياً، وكذلك خفضت إنتاجها بمقدار أربعة ملايين برميل إثر الأزمة المالية العالمية في عام 2008، عندما انخفض السعر من أعلى سعر بلغه 147 دولاراً إلى ما يقارب 30 دولاراً، وقد أدى هذا الخفض إلى تماسك الأسعار ثم تحسنها بعد وقت قصير وارتفعت تدريجياً إلى أن تجاوزت الـ115 دولاراً في صيف العام الحالي قبل انخفاضها الأخير.

وتبدو منظمة أوبك بدورها مرتاحة إلى مستقبلها في ميزان العرض والطلب على المديين القصير (2019) والبعيد (2040)، وتشير في تقرير الأمانة العامة للمنظمة لعام 2014، إلى أن النفط سيستمر في تأدية دور أساسي ورئيسي في تلبية احتياجات العالم من الطاقة، نظراً للنمو المتزايد للاقتصاد العالمي، فضلاً عن ازدياد عدد السكان وارتفاع مستوى المعيشة.

وتوقعت أوبك أن تؤدي الدول الناشئة الرئيسية في العالم الثالث، مثل الصين والهند والبرازيل وكوريا الجنوبية، دوراً مهماً في استهلاك الطاقة، كذلك فإن توسع الأسواق الأسيوية سيجعل منها ركيزة لسوق النفط العالمية، وتشير معلومات أوبك إلى ارتفاع توافر إمدادات الطاقة من 256 مليون برميل من النفط المكافئ يومياً، إلى 410 ملايين برميل يومياً عام 2040، وترتفع حصة النفط من مجمل سلة الطاقة من 81.8 مليون برميل إلى 99.6 مليون برميل يومياً في الفترة ذاتها.

أما دول أوبك فهي ماضية في تطوير استثماراتها النفطية، وتحتاج في المتوسط إلى استثمار نحو 40 مليار دولار سنوياً للسنوات المتبقية من العقد الحالي، وإلى 60 مليار دولار سنوياً على المدى البعيد، وهو مؤشر لأهمية مستقبل الاستثمار في القطاع النفطي.

 

النفط الروسي

تنتج روسيا نحو 11 مليون برميل نفط يومياً، وهي تعتبر أكبر دولة منتجة في العالم، وقد رفض وزير طاقتها “ألكسندر نوفاك” تخفيض الإنتاج لتجنب ارتفاع الأسعار، وأعلن “وايجور سيتشن”، رئيس شركة “روسنفت”، المقرب من الرئيس “فلاديمير بوتن”، أن روسيا لن تخفض إنتاجها حتى لو هبطت الأسعار إلى 60 دولاراً، مع العلم بأن روسيا تحتاج إلى سعر 100 دولار للبرميل لضبط موازنتها، وقد أبلغ وزير المال “أنطوان سيلوانوف” البرلمان الروسي أن إيرادات الموازنة قد تتراجع أكثر من تريليون روبل (21.5 مليار دولار) في عام 2015، بسبب أسعار النفط الضعيفة والنمو الاقتصادي المنخفض، ولم يستبعد لجوء روسيا إلى أسواق المال الأجنبية لسد عجزها المالي.

وحدث ذلك في وقت يعاني فيه الاقتصاد الروسي من تداعيات تطبيق عقوبات غربية بسبب دورها في الأزمة الأوكرانية، ستكلفها 40 مليار دولار سنوياً وفق اعتراف الوزير “سلوانوف” الذي أشار إلى أن هذه العقوبات لا تشكل الخطر الأكبر على الاقتصاد الروسي، مقارنة بانخفاض سعر النفط الذي سيكبد روسيا خسائر تصل إلى 100 مليار دولار سنوياً.

ومن الطبيعي أن يؤدي انخفاض السعر إلى تراجع الإنتاج الروسي بسبب ارتفاع تكلفته، وتؤكد الدراسات أن كلفة حفر الآبار الاستكشافية في القطب الشمالي تعادل نحو ثلاثة أضعاف كلفة الآبار في مناطق أخرى من العالم، مع العلم أن العوامل التي شجعت روسيا على زيادة إنتاجها، تعود إلى استقرار الأسعار على مستويات مرتفعة في السنوات الأخيرة بين 100 و 110 دولارات للبرميل.

ويقدر مجمل الإنتاج من القطب الشمالي والذي بدأ منذ أوائل القرن العشرين (خلال عام 1920) بنمو 40 مليار برميل من النفط الخام، ويبلغ معدل الإنتاج حالياً نحو 8 ملايين برميل من النفط المكافئ، وعلى الرغم من أهمية هذا المعدل، تشير معلومات الشركات النفطية إلى أن الجزء الأكبر من احتياطات القطب لا تزال غير مستغلة.

ووفق وزير الطاقة “ألكسندر نوفاك”، تنتظر روسيا عودة الأسعار إلى الارتفاع، مشيراً إلى أن أسعار النفط المنخفضة ستتسبب في توقف مشاريع النفط غير الفعالة؛ مما سيخفض الإنتاج  ويدعم الأسعار التي ستعود بدورها إلى مستويات عادلة.

 

النفط الصخري

يقدر الاحتياطي العالمي المتوقع للنفط الصخري بنحو 5 تريليونات برميل، حصة الولايات المتحدة منها نحو 3.5 تريليون برميل، ويقدر الإنتاج الصخري حتى عام 2035 بنحو 14 مليون برميل يومياً، وهو يشكل أقل من 15% من حاجة الاقتصاد العالمي الذي سيظل يعتمد على النفط الخام كمصدر أول للطاقة.

ويعتبر بروز صناعة النفط الصخري ونموها في الولايات المتحدة، أحد أهم التطورات في القطاع منذ فترة طويلة، فقد استطاعت زيادة إنتاجها نحو ثلاثة ملايين برميل يومياً خلال ثلاث سنوات (2012 – 2013 – 2014)، وجرى استثمار 200 مليار دولار في هذه الصناعة، وبما يعادل 50% من إجمالي الاستثمارات النفطية العالمية، كما أن هذا المبلغ يزيد عما استثمر في كل من روسيا والسعودية في المجال ذاته، وفق دراسة صدرت أخيراً عن مؤسسة “جولدمان ساكس”.

وهكذا ساهم النفط الصخري في زيادة إنتاج الولايات المتحدة من النفط إلى 11 مليون برميل يومياً، وتراجعت ورداتها إلى نحو 6 ملايين برميل يومياً، وهي تتطلع إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي في السنوات المقبلة، وفي هذا المجال تسعى لتنفيذ مشروع خط أنابيب “كي ستون إكس إل” الذي سيحمل النفط الرملي الخام من كندا إلى مصافٍ أمريكية في ولاية تكساس، ويبلغ طوله 1898 كيلو متراً، وتصل قدرته على حمل 830 ألف برميل يومياً، وتقدر تكلفته الإجمالية بنحو 6 مليارات دولار.

وهذا المشروع ليس جديداً بل يعود إلى خمس سنوات من السجال حول إمكانية تنفيذه لأسباب بيئية، وقد وافق عليه مجلس النواب الأمريكي في مطلع نوفمبر الماضي بأكثر 252 نائباً مقابل معارضة 161 نائباً، ولكن المسألة لم تحسم في مجلس الشيوخ الذي رفض المشروع بفارق صوت واحد، حيث حصل على موافقة 59 نائباً، في حين أن الأغلبية اللازمة للموافقة عليه تتطلب 60 صوتاً، وبينما طالب المدافعون عن البيئة إدارة “أوباما” برفضه، يسعى كبار رجال الأعمال لإقراره، لأنه في رأيهم، سيعزز فرص العمل ويدعم استقلال الولايات المتحدة في مجال الطاقة، خصوصاً وأن الإستراتيجية الاقتصادية الأمريكية تعول على المشروع كنقطة مركزية في بلوغها الاكتفاء الذاتي والاستغناء عن استيراد النفط من المنطقة العربية بشكل أساسي.

ويتوقع المراقبون أن تتصدر هذه المسألة برامج الحملات الانتخابية في العام 2015، وقد تشكل أحد عوامل فوز أي من الفريقين الجمهوري والديمقراطي، وفي هذا المجال تريثت وزارة الخارجية الأمريكية بإصدار قرارها النهائي حول الآثار البيئية المترتبة على إنشاء خط الأنابيب الكندي إلى السابع من مارس 2015، مع العلم أن الجمهوريين ستبدأ قيادتهم لأغلبية الكونجرس في يناير المقبل.

ولكن هل يستطيع النفط الصخري بكلفته المرتفعة تحمل انخفاض أسعار النفط التقليدي وخصوصاً الخليجي؟

 

بالطبع لا.. ففي الماضي البعيد لم تفكر الولايات المتحدة بإنتاج النفط الصخري لأن كلفته تزيد على 70 دولاراً للبرميل، في حين كانت كلفة النفط الخليجي لا تزيد على ثلاثة دولارات للبرميل، ولكن مع التطور التكنولوجي تم ابتكار طرق جديدة ساهمت بخفض الكلفة، ورغم ذلك لا تزال في حدود 40 دولاراً للبرميل، مقابل أقل من 20 دولاراً لبرميل النفط الخليجي.

ولذلك أكد “جيسون فورمان”، المستشار الاقتصادي الأول للرئيس الأمريكي “باراك أوباما”، أن الولايات المتحدة ستواصل تعزيز إنتاج النفط، لكن هبوط الأسعار العالمية سيبطئ وتيرة نمو الإنتاج.

وهكذا يكون تمسك أوبك برفض تخفيض إنتاجها حتى لا تستغل هذا التخفيض الدول المنتجة من خارجها والتي رفضت التعاون المشترك لتخفيض عادل يؤمن استقرار السوق، قد بدأت تحقق هدفها في تخفيض الإنتاج العالمي للنفط عن طريق خفض الأسعار، وهذا ما يحصل حالياً بالنسبة لروسيا والولايات المتحدة وهما أكبر منتجين خارج أوبك.

وانطلاقاً من وقائع السوق، يتطلع المراقبون بتفاؤل إلى احتمال نجاح اجتماع رباعي يضم السعودية وفنزويلا من أوبك وروسيا والمكسيك من خارجها، مرتقب في فبراير 2015 للتعاون من أجل تأمين الاستقرار للسوق النفطية، على أساس أنها مسئولية جميع الدول المنتجة، وليست مسئولية أوبك وحدها.

ومن المنتظر أن تكون فترة الخمسة أشهر بين (فبراير ويوليو 2015) فترة اختبار لتطورات السوق، وكذلك تطورات منطقة الشرق الأوسط السياسية والأمنية ومراحل مفاوضات النووي الإيراني مع الدول الست، حتى تتخذه أوبك في ضوئها القرار المناسب في اجتماعها المرتقب في أواخر يوليو 2015.

 

 

 

Exit mobile version