تقرير: انهيار أسعار النفط وسيناريوهات المستقبل

في اقتصاديات السوق بملامحها المادية، التي تكرس أن القوى يأكل الضعيف، وفي ظل آليات “الصراع لا التعاون”، لا وجود لمقولات حاول البعض ترسيخها في سوق النفط العالمية، مثل “التقاء مصالح المنتجين والمستهلكين”، لا توجد مصالح مشتركة، بل يوجد صراع حقيقي.

في اقتصاديات السوق بملامحها المادية، التي تكرس أن القوى يأكل الضعيف، وفي ظل آليات “الصراع لا التعاون”، لا وجود لمقولات حاول البعض ترسيخها في سوق النفط العالمية، مثل “التقاء مصالح المنتجين والمستهلكين”، لا توجد مصالح مشتركة، بل يوجد صراع حقيقي.

 فارتفاع أسعار النفط ليس في صالح المستهلكين؛ لأنه يرفع تكلفة الإنتاج؛ وبالتالي تزيد معدلات التضخم، فارتفاع الأسعار يحقق مصالح المنتجين، وهو ما لاحظناها على الثروات النفطية التي تكونت لدى المنتجين على مدار العقد الماضي.

 فالإحصاءات الرسمية لمنظمة “الأوبك” تبين أن الناتج المحلي الإجمالي لدول المنظمة ارتفع من 2.18 تريليون دولار في عام 2009م إلى 3.52 تريليون في عام 2013م، بزيادة قدرها 1.34 تريليون دولار وبنسبة تقدر بـ 61.4%، وترجع هذه الزيادة بنسبة كبيرة لارتفاع أسعار النفط في السوق الدولية خلال هذه الفترة.

والعكس صحيح؛ فانخفاض أسعار النفط يحقق مصالح المستهلكين، حيث تنخفض تكلفة الإنتاج والمعيشة، وتقل معدلات التضخم، وتعد موجة انخفاض أسعار النفط في السوق العالمية من يونيو 2014م وحتى الآن في صالح المستهلكين، حيث انخفضت الأسعار بنسبة 31%.

 وبلا شك، فإن انهيار الأسعار بهذه الصورة أضر بمصالح المنتجين، حيث بدأت معظم الدول النفطية في مراجعة موازناتها العامة، وتقليص نفقاتها، والبعض لجأ إلى الاحتياطيات النقدية، أو السحب من الصناديق السيادية، ويتوقع أن تتراجع معدلات النمو بالدول المنتجة للنفط، وكذلك تراجع قيمة الناتج المحلي لهذه الدول.

–    المشهد العالمي:

بلا شك أن هناك حالة من الانهيار لأسعار النفط في السوق الدولية، البعض يرجعها لأسباب اقتصادية بحتة تتمثل في زيادة المعروض، والقاعدة الاقتصادية هي: “إذا زاد العرض قلَّ السعر”، وكذلك زيادة الإنتاج من النفط الصخري، وكل ذلك في ظل تعافٍ هش لمعدلات النمو العالمي، بل تراجعها، حسب تقديرات كل من البنك والصندوق الدوليين، إذ تذهب تقديراتهما إلى أن يصل معدل النمو إلى 2.8%، وفي أحسن الأحوال 3.2%.

إلا أن القراءة السياسية لمشهد النفط في الساحة العالمية تذهب إلى أن هذا الانخفاض أتى نتيجة الصراع بين أوروبا وأمريكا من جهة، وكل من روسيا وإيران من جهة أخرى، من أجل اختلاف وجهات النظر بين المتصارعين على ملفات إقليمية، وبالفعل تأثرت اقتصاديات الدولتين بشكل كبير، ومن المنتظر أن تزداد هذه الأضرار إذا ما استمرت موجة تراجع سعر النفط، أو على الأقل استقرارها عند هذه المعدلات المنخفضة بحدود 70 دولار للبرميل.

وبالتالي فحركة أسعار النفط في السوق العالمية وفق الرؤية السياسية تتوقف على ما تؤول إليها العلاقة بين طرفي الصراع من نتائج، فإما الوصول إلى نقاط اتفاق وبالتالي بداية موجات في ارتفاع أسعار النفط، وإما استمرار الخلاف وبالتالي العمل على تحقيق أكبر خسائر ممكنه لكل من روسيا وإيران، وبخاصة أن أمريكا وأوروبا يتحكمان في الكثير من أوراق اللعب في كافة مراحل اكتشاف وإنتاج وتوزيع النفط ومشتقاته.

–    المشهد العربي:

مر المشهد العربي في بدايات الأزمة بنوع من التماسك، والتمني بألا يشهد سعر النفط المزيد من الانخفاض، وألا تنحدر الأسعار إلى ما دون 95 دولاراً للبرميل، ولكن مع استمرار موجة انخفاض الأسعار، اختلفت الحسابات العربية، وإن كان موقف الدول العربية من خلال منظمة “أوبك” يحتاج إلى تفسير، فليس من صالح الدول العربية استمرار الإنتاج في ظل الأسعار المنخفضة.

اللافت للنظر أن كافة الدول العربية المنتجة للنفط لم تكن قد وضعت في اعتبارها هذا الانخفاض الشديد في أسعار النفط، فبنت تقديرات موازناتها على أسعار أعلى مما هي عليه الآن، فحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، فإن ما يصلح موازنة السعودية أن يكون سعر برميل النفط عند 104 دولارات، وفي الإمارات 80 دولاراً، ونجد أن الأسعار حالياً دون ذلك بكثير، وهو ما يعني حدوث حالة من الارتباك المالي للدول العربية المنتجة للنفط، سواء دول الخليج أو غيرها، وبالفعل أُعلن أن السعودية سحبت 15 مليار دولار من رصيد احتياطياتها من النقد الأجنبي في أغسطس الماضي.

وفي حالة استمرار موجة انخفاض أسعار النفط، أو استقرارها عند المعدلات الحالية، فالمتوقع أن تبدأ ظاهرة عجز الموازنات في الظهور مرة أخرى، بعد أن اختفت في أواخر تسعينيات القرن العشرين، وكذلك قضية المديونية سواء على الصعيد المحلي أو الخارجي، وقد يساعد بعض الدول الخليجية في الأجل القصير أو المتوسط على أعلى تقدير أن تلجأ إلى رصيدها من احتياطي النقد، أو أرصدة الصناديق السيادية.

ولكن على الأجل الطويل سيكون انخفاض أسعار النفط تكريساً لمشكلات اقتصادية حادة للدول النفطية العربية، نظراً لأنها تعتمد بشكل كبير على النفط لسلعة إستراتيجية وحيدة، وفشلت هذه الدول على مدار عقود في إيجاد اقتصاد متنوع.

على الجانب الآخر من المشهد العربي، هناك الدول العربية غير النفطية، وهذه الدول يحقق لها انخفاض أسعار النفط، بعض الإيجابيات وبعض السلبيات، فعلى صعيد الإيجابيات سوف يتم تخفيف فاتورة استيراد النفط بنفس نسبة انخفاض أسعار النفط في السوق العالمية؛ وبالتالي التخفيف من أعباء الموازنات العامة، التي تعاني من عجز مزمن في هذه الدول.

ولكن سوف يحد من هذه الميزة للدول العربية غير النفطية، عجز هذه الدول في توفير السيولة المالية اللازمة لشراء احتياجاتها من النفط، مما سيضطرها لشراء النفط بنظام الدفع الآجل ومن خلال تسهيلات ائتمانية، وهو بلا شك سيكون بأسعار أعلى مما هي عليه في السوق الدولية.

وتعد الحالة المصرية نموذجاً لهذه الحالة، فهي دولة مصدرة ومستوردة للنفط، ولكن استيرادها منذ عام 2008م بدأ يفوق صادراتها، فما ستجنيه من فوائد في انخفاض أسعار الواردات النفطية، ستخسره في مقابل نظير انخفاض عوائد النفط لصادراتها.

ومن جهة أخرى، ليس لدى مصر من السيولة ما يمكنها من اقتناص الفرصة لتدبير احتياجاتها من السوق الدولية من النفط لفترة طويلة، فمصر مشغولة الآن بسداد 50% من ديونها لصالح الشركات الأجنبية المنتجة للنفط، وتدبر سداد التزاماتها للأسف من خلال ديون أيضا وليس من خلال موارد ذاتية، أو تدفقات جديدة من النقد الأجنبي.

ومن المسالب المتوقعة كذلك على الدول العربية غير النفطية من جراء انخفاض أسعار النفط، أن تأثير اقتصاديات الخليج سلبياً بتراجع عوائد النفط، أنها قد تفكير في إيقاف بعض مشروعاتها العامة القائمة، أو تأجيل بعض المشروعات المخطط لها خلال الفترة القادمة؛ مما يعني الاستغناء عن العمال من الدول العربية غير النفطية، وهو ما يؤثر على تحويلات هؤلاء العمال لصالح بلدانهم من النقد الأجنبي.

وعلى صعيد آخر، قد تتأثر برامج العون العربي، والذي يعتمد بشكل كبير على المساعدات التي تقدمها الدول النفطية، وبخاصة دول الخليج، وعادة ما كانت تقديرات هذا العون بحدود من 5 – 6 مليارات دولار، ولكن في عام 2013م ستكون التقديرات مرتفعة، بسبب المعونات التي قدمتها دول خليجية (السعودية، الإمارات، الكويت) للانقلاب العسكري في مصر خلال عام 2013م.

وفي حالة تراجع العون العربي نتيجة لتراجع أسعار النفط، ستكون مصر من أكبر المتضررين من هذا الأمر؛ بسبب معضلتها التمويلية، وسعيها إلى الحصول على مساعدات خليجية، أو على أقل تقدير تدفق بعض الاستثمارات من قبل الدول الخليجية المؤيدة والداعمة للانقلاب العسكري هناك، في مؤتمر المانحين المنتظر انعقاده في مارس 2015م.

وما ينطبق على العون العربي ينطبق على الاستثمارات العربية البينية، وبشكل عام سوف تشهد العديد من المؤشرات الاقتصادية العربية الكلية تراجعًا ملحوظاً؛ بسبب تراجع أسعار النفط، سواء على صعيد الناتج المحلي، أو تراجع قيمة الصادرات.

Exit mobile version