إن التاريخ الإسلامي يحتاج لوقفات طويلة وجريئة تقيم الماضي وتنظر للمستقبل برؤى تلائم روح العصر ولا تتجاوز على الثوابت القرآنية.
إن التاريخ الإسلامي يحتاج لوقفات طويلة وجريئة تقيم الماضي وتنظر للمستقبل برؤى تلائم روح العصر ولا تتجاوز على الثوابت القرآنية.
ومسألة الخلافة في الإسلام والحكم عموماً من المسائل الشائكة والمعقدة، ولا يمكن حلها باستحضار الماضي، ومن ثم استنساخه استنساخا حرفياً، ويجب أن تدرس كل الظواهر وتقيم تقييماً حضارياً، ومنها تجربة الإمام الصادق في هذا المجال، فالنكبات السياسية التي حلت بالمسلمين منذ استشهاد الخلفاء الراشدين عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وتطورت الأمور في ازدياد الفتن، واعتزال الحسن رضي الله عنه، وتفاقمت بمقتل الحسين رضي الله عنه؛ مما ترك آثاراً عميقة لدى معظم أحفاده من بعده، للابتعاد عن هذا المجال والتفرغ للمسائل الدينية والفقهية لا خوفاً كما يشاع، ولكن ترفعاً عن هذا الشأن.
وفي غمرة الصراع بين الأمويين والعباسيين، حيث اتخذ العباسيون كل سبل المراوغة والانتهازية، ومنها اتخاذ نصرة آل البيت وسيلة للوصول إلى السلطة؛ فهادنوا أهل خراسان ورفعوهم إلى أقصى الدرجات من أجل غاياتهم، فأتت هذه الدولة باسم الدين، وكان السلاح الذي قامت عليه استعطاف الناس بإعادة الأمور لآل محمد صلى الله عليه وسلم، فوصفوا الأمويين بشتى صفات النقص والبعد عن الدين، ووضعوا في ذمهم أحاديث أسندوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمات الوضع فيها لا تخفى على أحد، بجانب ذلك عملوا على استمالة أهل خراسان والفرس لنصرتهم؛ فكان قائد جيوشهم أبو مسلم الخراساني أحد أهم دعائمهم، وكذلك أبو سلمى الخلال الذي صار أول وزير للدولة عند إعلانها في الكوفة عام (عام 132هـ).
وتؤكد معظم كتب التاريخ بأن الداعية إبراهيم بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس، شقيق أبي العباس السفاح، وأبي جعفر المنصور، وهو الذي كان من دعائم الدعوة العباسية، قد أرسل كتاباً لأبي مسلم جاء فيه: “إن قدرت ألا تُبقي بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل، وأيما فتى بلغ من الطول خمسة أشبار شككت فيه فاقتله ولا تتردد”! ثم صار المكر والخداع والغدر أهم سمات هذه الدولة، حتى إن محمد بن علي بن طباطبا يذكر في كتابه المعروف بـ”الفخري في الآداب السلطانية” قال: “اعلم أن الدولة العباسية كانت دولة ذات خداع ودهاء وغدر، وكان قسم التحايل والمخادعة فيها أوفر من قسم القوة والشدة”.
لقد اتسمت السياسة العباسية بالغدر، فلم يكونوا يأنفون من الغدر بمن ائتمنهم، وهذا على خلاف ما كانت عليه العرب في جاهليتهم وفي بدء إسلامهم، وصار الفرقاء يتربص بعضهم بعضاً.
في هذه الأجواء عاش الإمام الصادق (80 – 148هـ)، والذي تفرغ للعلم ولم يأبه للسياسة، رغم معرفته بتوجه الأنظار إليه لتسليمه الخلافة بعد ترنح الدولة الأموية،
شعر أبو سلمى الخلال (وزير آل محمد) بترصد بني العباس، فأراد العدول إلى أبناء عمومتهم من العلويين لإعطائهم الخلافة، وليكون هو الرأس المدبر للأمور كلها، فكتب إلى ثلاثة من أعيانهم؛ وهم: جعفر الصادق، وعبدالله المحض، وعمر الأشرف زين العابدين، وأرسل الكتب مع رجل من مواليهم، وذهب الرسول إلى جعفر الصادق ودفع إليه كتاب أبي سلمة، فكان جوابه حازماً وقاطعاً، وقال له: ما لي ولأبي سلمة وهو صنعة غيري؟
فقال له الرسول: اقرأ الكتاب، فقال جعفر لخادمه: ادنُ السراج مني، فأدناه فوضع الكتاب على النار حتى احترق، فقال الرسول: ألا تجيبه؟ فقال رضي الله عنه: قد رأيت الجواب.
التف الباطنيون من الطرف الآخر حول الصادق، فذهب أحد كبارهم وهو على الأغلب أبو الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي (145ه) لعرض الزعامة، فطرده الصادق من مجلسه، وعرف مقاصدهم وقال قولته الشهيرة: “لا أنت من رجالي، ولا الزمان زماني”.
فشلت كل المحاولات مع الإمام جعفر، فذهب الرسول إلى عبدالله المحض الذي قرأ الكتاب، وقبله وكتب إلى الإمام جعفر وأخبره بدعوة أبي سلمة له للخلافة، وقال له: إنه قد وصل الكتاب على يد بعض شيعتنا من أهل خراسان، فقال له الإمام جعفر: ومتى صار أهل خراسان شيعتك؟ وكيف يكونون شيعتك وأنت لا تعرفهم وهم لا يعرفونك؟
كان رجلاً مدركاً لكل جوانب اللعبة السياسية القذرة التي أراد أنصار العباسيين لعبها، وعندما شكك عبدالله المحض بنوايا الإمام جعفر قال له رضي الله عنه: قد علم الله أني أوجب النصح على نفسي لكل مسلم، فكيف أدخره عنك؟ فلا تمن نفسك الأباطيل، فإن هذه الدولة ستتم لهؤلاء، وقد جاءني قبل الكتاب الذي جاءك وكانت نهايته كما توقع الإمام جعفر.
تأثر عمر بن زين العابدين بما سمعه عن الصادق فرد الكتاب وقال لحامله: أنا لا أعرف صاحبه فأجيبه.
ثم كانت نهاية الخلال أبشع نهاية.
إن سرد هذه الأحداث ليست لمجرد السرد والحكاية، إنها دعوة بسيطة لإعادة قراءة كل جوانب التاريخ السياسي الإسلامي، والوقوف وقفة جادة وشجاعة أمام الشخصيات التي رفضت الألاعيب السياسية، واعتبرت هذه الأمور من الأمور الدنيوية البحتة, وأن مسألة الحكم والسياسة إذا قام بها من هو أهل لها فليكن الأمر كذلك، والابتعاد عن كثير من المفاهيم واستغلالها لصالح هذا وذاك, وأن رجال الدين يمكن أن يكونوا نواة الإصلاح بزهدهم واستقامتهم خصوصاً إذا فسد الملوك والرؤساء.